ما الجديد في موضوع التضخم هذه المرة؟

21:49 مساء
قراءة 4 دقائق
2

د. جاسم المناعي *

التضخم كغيره من ظواهر الاقتصاد الرأسمالي كالكساد والرواج والانكماش يمر بدورات زمنية متفاوتة والتي تعرف في علم الاقتصاد بالدورات الاقتصادية. وإن كان التضخم بشكل عام يمثل ظاهرة ارتفاع الأسعار إلا أن أسبابه وتداعياته تختلف من مرحلة زمنية إلى أخرى وفقاً للسياسات المالية والنقدية المتبعة وكذلك وفقاً للظروف السائدة سواء على الصعيد السياسي أو الصحي مثل فترات تفشي الأوبئة أو فترات الحروب والصراعات أو غيرها من الأسباب. 

وسنحاول في هذا المقال التطرق إلى الأسباب الرئيسية لموجة التضخم في هذه المرحلة الزمنية وتحدياتها وتعقيداتها ثم نحاول في نفس الوقت الإشارة إلى تداعياتها وبخاصة على صعيد دول المنطقة.

خلال العقدين الماضيين ورغبة في تحفيز ودعم النمو الاقتصادي انتهجت كثير من الدول إن لم يكن معظمها سياسات مالية ونقدية توسعية تمثلت في زيادة الإنفاق وتخفيض أسعار الفوائد إلى أدنى مستوى من قبل البنوك المركزية، هذا إضافة إلى إقدام السلطات النقدية على شراء السندات الحكومية فيما يعرف بالتيسير الكمي على الرغم من أنه من غير المتعارف عليه أن تشتري البنوك المركزية السندات الحكومية؛ حيث يعتبر ذلك تمويلاً للحكومات من قبل السلطات النقدية. 

كل هذه التدابير والسياسات أدت إلى ضخ سيولة كبيرة في الاقتصاد انعكس ذالك في شكل مبالغة كبيرة في أسعار الأصول وخاصة الأسهم كما انعكس ذالك بالمحصلة في شكل ارتفاع أسعار البضائع والسلع. كذالك فقد شهدنا منذ بدء جائحة كورونا حوافز وإنفاقات سخية لمساعدة القطاعات والأنشطة الاقتصادية المتضررة من تداعيات هذه الجائحة الأمر الذي حذر منه بعض الخبراء بأن مثل هذه الإنفاقات الكبيرة من شأنها أن تؤجج ارتفاعات الأسعار وتؤدي إلى تفاقم ظاهرة التضخم. ويمكن أن نضيف إلى هذه العوامل والأسباب الاختناقات الكبيرة التي عانتها سلاسل الإنتاج وكذالك النقص الحاد في الرقائق الإلكترونية هذا إضافة إلى نقص الأيدي العاملة نتيجة للإجراءات المتبعة للحد من آثار جائحة كورونا والتي في المحصلة أدت في بعض القطاعات إلى صعوبة حركة العمالة بالشكل الذي تتطلبه حاجة القطاعات الاقتصادية الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الأجور وبالتالي ارتفاع تكاليف الإنتاج.

يمثل التضخم في هذه المرحلة تحدياً كبيراً لجميع الاقتصاديات؛ حيث من ناحية يشكل ارتفاعاً كبيراً للأسعار وبالتالي لتكاليف المعيشة بشكل عام؛ حيث وصل معدل التضخم إلى مستويات غير مسبوقة. فعلى سبيل المثال وصل التضخم في أمريكا إلى مستوى 7.5% وهو المعدل الذي لم تعرفه أمريكا منذ أكثر من أربعين سنة.

الإشكالية في مثل هذه المعدلات من التضخم أنه يؤثر سلباً ليس فقط في القوة الشرائية للأفراد التي تتآكل مع هذه المستويات من التضخم وبالتالي تؤدي إلى مطالبة النقابات والأفراد بالتعويض عن طريق زيادة الرواتب والأجور الأمر الذي من شأنه رفع تكاليف الإنتاج وبالتالي إلى مزيد من زيادة معدلات التضخم مما يدخلنا فيما يعرف بالحلقة المفرقة. 

على صعيد آخر يمثل التضخم في هذه المرحلة تحدياً لا يقل أهمية فيما يتعلق بمدى إمكانية تحقيق معدلات نمو مرغوبة؛ حيث إن التضخم يزيد من كلفة الإنتاج كما أنه يزيد من تكاليف التمويل الضروري لتحقيق الاستثمارات المطلوبة؛ حيث بسبب تزايد معدلات التضخم تستعد الآن البنوك المركزية لرفع معدلات الفائدة وذالك لكبح جماح التضخم الحالية أو المستقبلية، لكن ذلك من شأنه زيادة تكاليف التمويل وبالتالي تكاليف الإنتاج مما قد يؤدي إلى انكماش الاقتصاد مع عدم استبعاد استمرار التضخم وهي الحالة التي تعرف بوضع الانكماش التضخمي ومثل هذا الوضع يمثل إشكالية حقيقية للمعنيين بالسياسات الاقتصادية في دول العالم في هذه المرحلة بالذات.

تنقسم تداعيات التضخم فيما يخص الدول العربية ودول الخليج على وجه أخص إلى قسمين منها التداعيات الإيجابية ومنها السلبية. على الصعيد الإيجابي فإن دول المنطقة قد استفادت من ارتفاع أسعار النفط والمنتجات البترولية وهذا الارتفاع سوف يساعد على تعزيز ورفع معدلات النمو الاقتصادي وزيادة فرص العمل ودعم الاحتياطيات الأجنبية. أما على الصعيد الآخر فإن ارتفاع التضخم سوف ينعكس على تكاليف المعيشة كما أن ذلك من شأنه التأثير على القوة الشرائية خاصة أن دول المنطقة تعتمد في سد احتياجاتها إلى حد كبير على الاستيراد من الخارج وبالتالي وإن كان التضخم الداخلي محدوداً إلا أن التأثير يأتي من التضخم المستورد. كذلك فإن رفع أسعار الفائدة وبخاصة على الدولار سوف ينعكس مباشرة على أسعار الفوائد في دول المنطقة بحكم ارتباط عملات معظم دول المنطقة بالعملة الأمريكية. وطبعاً فإن ارتفاع أسعار الفوائد وإن كان مفيداً لبعض شرائح المجتمع من المودعين وكذالك قطاع المصارف إلا أنه من الناحية الأخرى يمثل أعباء على القطاعات الأخرى والأفراد الذين يعتمدون على الاقتراض في أنشطتهم الاقتصادية. كذالك لاحظنا تحسباً لارتفاع أسعار الفوئد تراجع أسعار السندات وقد نشهد تراجعاً مماثلاً في أسعار الأسهم العالمية.

هذه في الواقع طبيعة الدورات الاقتصادية التي تمر بها اقتصاديات دول العالم سواء على صعيد النمو أو الانكماش أو على صعيد التضخم أو الكساد.

هذا وإن كان من الصعب الفرار أو تجنب هذه الدورات وتداعياتها إلا أنه يفترض بأن يكون للسياسات المالية والنقدية آلياتها وأدواتها التي على الأقل يمكنها التخفيف من حدة مثل هذه الدورات والتحكم في معدلاتها وتقصير من أمدها قدر الإمكان. 

* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"