التنمية والنمو وما بينهما

00:25 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الحسين شعبان

كان الحديث قبل صدور تقارير الأمم المتحدة الإنمائية ينصبّ على النمو الاقتصادي بالدرجة الأساسية، ثم تطوّر الأمر فشمل «التنمية البشرية» بمختلف جوانبها، وفي التسعينات أصبح المقصود بذلك «التنمية المستدامة»، أي الانتقال من تنمية الرأسمال البشري إلى الرأسمال الاجتماعي، وهو ما أُطلق عليه «التنمية الإنسانية الشاملة»، أي أنها لا تقتصر على الاقتصاد وحسب، بل تشمل جميع الحقول السياسية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية والصحية والبيئية والنفسية، بما فيها الحقل الديني والروحاني.

 وقد تجاوز المفهوم الجديد للتنمية المفهوم الضيّق السابق الذي اقتصر على النمو الاقتصادي، خصوصاً شموله مسألة الحكم وشرعيّته (أي رضا الناس) ومشروعيته (أي حكم القانون)، والعلاقة بين الناس والإدارة ودرجة التمثيل الشعبي ومشاركتهم في اختيار الحاكم بانتخابات دورية وتغييره، والمساءلة والشفافية، كما شمل الإدارة الرشيدة التي هي من عوامل نجاح التنمية فلا تنمية ناجحة دون إدارة مقتدرة، والتنمية أولاً وقبل كلّ شيء «توسيع خيارات الناس».

 ولا يمكن للتنمية أن تحقق أهدافها القريبة المدى أو المتوسطة، إضافة إلى البعيدة، إلّا في ظلّ الاستقرار والسلام، فلا تنمية مع الحروب ولا تنمية مع النزاعات المسلحة والاحترابات الأهلية، وبالطبع لا تنمية حقيقية في ظلّ غياب الحقوق والحريات أو تقليصها.

 وحتى يتحقّق ذلك فلا بدّ من اعتماد مبادئ المواطنة السليمة المتكافئة والمتساوية وأساسها الحرية والمساواة والعدالة، وخصوصاً الاجتماعية، فلا تنمية حقيقية مع الفقر، ولعلّ قفزة الصين التنموية الأساسية كانت بإخراج حوالي 400 مليون إنسان من دائرة الفقر، وحسبنا هنا أن نستذكر تجربتي ماليزيا وسنغافورة الناجحتين في سياق التجارب التنموية المتقدّمة.

 ولا بدّ من تأكيد مبادئ الشراكة والمشاركة كركن رابع للمواطنة الحيوية، وهو ما أكّدت عليه تقارير الأمم المتحدة منذ العام 1990، حيث وضعت معايير لذلك أساسها الحكم الصالح واحترام حقوق الإنسان، منذ أن دخل مفهوم التنمية في جدول أعمال لجنة حقوق الإنسان الدولية.

 وقد طرح مؤتمر فيينا العالمي لحقوق الإنسان في العام 1993 أسئلة التنمية كرديف للجيل الثالث لحقوق الإنسان، اعتماداً على قرار تصفية الاستعمار (الكولونيالية) الصادر عن الأمم المتحدة العام 1960؛ وكان صدور «إعلان الحق في التنمية» العام 1986 نقطة تحوّل مفصليّة تاريخيّة في مسار عملية التنمية على المستويين الفردي والجماعي، وهو الأمر الذي يحتاج إلى توطينه أو تبيئته عربياً ليدمج الخصوصية بالكونية، أي يراعي الشروط العامة للتنمية مع تأكيد الخصوصية الوطنية والمحلية.

 جدير بالذكر أن مفهوم التنمية واجه تحديات عديدة، بسبب مركزية الدولة الشديدة الصرامة؛ حيث حذت العديد من البلدان العربية التي أطلق عليها «بلدان التحرّر الوطني» طريق التوجّه الاشتراكي أو ما سُمّيَ «التخطيط الموجّه» بتغليب الأهداف الاجتماعية على الأهداف المدنية والسياسية، وخصوصاً تلك التي لها صلة بالديمقراطية السياسية والحريّات، إضافة إلى ضعف المشاركة الشعبية من جانب قطاعات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية التي لم تستطع أن تتحوّل إلى قوة اقتراح وشريك للدولة في عملية التنمية المستدامة، خصوصاً في ظلّ احتكار العمل السياسي والنقابي والمهني من الجهات الحاكمة، ولاسيّما في مصر وسوريا والعراق والجزائر وليبيا واليمن والسودان وغيرها، فضلاً عن ضعف القطاع الخاص بسبب التضييقات التي وُضعت في طريقه لاعتبارات أيديولوجية.

 وثمّة معوّقات أخرى للتنمية، منها الحروب الخارجية، والصراعات الداخلية الإثنية والطائفية، والنزاعات الأهلية المسلّحة، فضلاً عن الإرهاب والإرهاب الدولي، خصوصاً حين يكون مصحوباً بتدخلات خارجية إقليمية ودولية، وقد دخلت الجزائر في التسعينات في هذا النفق المظلم لنحو عشر سنوات، وعانى منه العراق بعد الاحتلال العام 2003 مع إفرازات نظام المحاصصة والتقاسم الوظيفي القائم على الزبائنية السياسية، وهو نسخة ثانية للنموذج اللبناني الذي عطّل هذا البلد الجميل المتنوّع لدرجة الشلل، ولم تكن ليبيا واليمن وسوريا بعيدة عن الاحترابات التي تستمر منذ نحو عقد من الزمن غذّتها قوى إقليمية خارجية هدفها فرض الهيمنة.

 ولذلك تلكأت وتعثّرت وتدهورت وتراجعت عملية النمو الاقتصادي التي بدأت بتجربة تصنيع وتراكم لرأس المال، وتوسيع القطاع العام، وتحسين ظروف العمل والعمال ومستوى المعيشة بشكل عام وإنعاش الدورة الاقتصادية، لكن ذلك كان لأجل قصير، سواء في بلدان اليسر أو في بلدان العسر، أي الدول النفطية الغنية، أو في البلدان الفقيرة بالموارد.

 وبسبب اختلال عملية التنمية وانغلاق الآفاق والتخبّط في المجالات المختلفة، فإن الأمر قاد إلى اندلاع ظواهر التعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف، وهذا الأخير إذا ما ضرب عشوائياً يتحوّل إلى إرهاب، وحين يكون عابراً للحدود ويهدف إلى إرعاب المجتمع والدولة والفرد فإنه يصير إرهاباً دولياً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"