النمو الهائل للاقتصادات الموجهة في آسيا

22:21 مساء
قراءة 4 دقائق

د. عبدالعظيم حنفي*
تلفت تجربة الاقتصادات التي تقع في النصف الثاني من حدود التقدم التكنولوجي النظر في نجاحها اللافت عبر عدة عوامل رئيسية:

العامل الأول: إيمان تلك الدول بأن الابتكار يشكل المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي، وخلق فرص العمل، ولقدراتها التنافسية. حيث إن صناعات جديدة بأكملها توفرت بفضل تطوير وتسويق أفكار جديدة، وأن عليهم البناء على أساس هذه الجهود كي تضمن بأن يتمكن مجتمع الأعمال لديهم من الابتكار إلى أكبر حد ممكن.

العامل الثاني: أن معظم تلك الدول تتبع ما يسمى ب«الرأسمالية الموجهة من الدولة» وهي محاولة الحكومة توجيه السوق في أغلب الأحوال من خلال مساندة صناعات معينة تتوقع أن فرصتها في النمو مؤكدة.

العامل الثالث: اتبعت تلك الدول عدة استراتيجيات لتحقيق النمو من خلال الالتحاق بعملية الانتقال التاريخي الذي تقوده التكنولوجيا.

العامل الرابع: يقف النمو الهائل للاقتصادات الموجهة من الدولة في آسيا شاهداً على إمكانية النجاح الكبير للرأسمالية الموجهة من الدولة واستمراره لمدة طويلة( على الرغم من أن النمو الاقتصادي في حالة اقتصادات جنوب شرق آسيا تم اختراقه من خلال أزمة مالية رئيسية أعقبت الحرب في (1997 -1998) وليس هناك صعوبة في فهم مصادر هذا النجاح، فتلك الاقتصادات لا تحتاج إلا إلى العثور على طريقة ما للحصول على قدر كاف من التكنولوجيا الأجنبية أو شيء قريب منها أو مزجها بعمالة منخفضة التكلفة لإنتاج منتجات (بل وخدمات مثل مراكز «خدمات الهاتف» -على سبيل المثال) يمكن أن تحقق مبيعات كبيرة في الأسواق الدولية.

العامل الخامس: أثبتت تجارب تلك الدول بأنه يمكن اتباع عدة استراتيجيات للحصول على التكنولوجيا:

(أ) هناك استراتيجية استيراد التكنولوجيا الأجنبية عن طريق الاستثمار الأجنبي المباشر، والمعرفة التي يمكن اكتسابها عن طريق إرسال أهل الوطن للدراسة بجامعات الخارج (في العادة إلى الولايات المتحدة الأمريكية).

(ب) هناك أيضاً استراتيجية أكثر اقتحاماً، وهي استراتيجية «استنزاف العقول في الاتجاه العكسي» وهي تشجيع الهجرة إلى بلاد التطور التكنولوجي مثل الولايات المتحدة – أو على الأقل عدم منع الهجرة – على أمل أن يعودوا لأوطانهم فيما بعد، أو تيسير بدء ونمو شركات محلية وطنية جديدة عن بعد، وتعد الهند مثالاً في تطبيق تلك الاستراتيجية «استنزاف العقول في الاتجاه العكسي»، وكانت هذه الاستراتيجية بمثابة المقامرة منذ عدة عقود، ولكنها نجحت حيث نجد رياديي الأعمال الهنود الناجحين إما قد عادوا إلى وطنهم، أو استثمروا في شركات هندية.

(ج) وهناك استراتيجية «إحلال الواردات» وقد اتبعت دول كثيرة في أمريكا اللاتينية لعدة عقود تلك الاستراتيجية، حيث تم تصميم تلك السياسات لدفع النمو في قطاعات معينة وفي كثير من الأحيان تم اختيار شركات بعينها للحصول على تلك المساندة من خلال حمايتها من الواردات،

(د) إلا أن هناك دراسات لاحظت أن الدول التي تبنت استراتيجية النمو من خلال الصادرات الذي تيسر إلى حد كبير من خلال توجيه الدولة لم تنجح إلا لأن صادراتها وجدت أسواقاً أساسية في الولايات المتحدة وفي حالة الصادرات الآسيوية إلى دول أخري في آسيا حيث ترتفع الدخول، وتحوز الدولة العملة الصعبة التي حصلت عليها من خلال الصادرات لدفع ثمن السلع المستوردة، وأنه لا يمكن أن تنجح سياسة النمو من خلال الصادرات الموجهة من الدولة إذا لم تكن الأسواق حول العالم مفتوحة عن طريق الاتفاقيات المتتالية متعددة الأطراف، التي تم عقدها لتحرير التعريفة الجمركية وبعض القيود الحدودية الأخرى تحت مظلة اتفاقية الغات (الاتفاقية العامة للتعريفة التجارية) ولاحقاً تحت مظلة خليفتها منظمة التجارة العالمية.

العامل السادس: هناك من الدراسات ما يشير إلى أن هناك عدداً من العيوب في نموذج الرأسمالية الموجهة من الدولة أهمها، الإفراط في الاستثمار وهو ما حدث في كوريا الجنوبية أواخر التسعينات من القرن العشرين، فبعد أن اعتادت الحكومة الكورية لفترة طويلة توجيه البنوك لمنح القروض للشركات العملاقة الكبرى فيها، والتي تعرف باسم «تشيبولز»، قامت بدفع عدد كبير من البنوك للاستثمار المفرط في التوسع في صناعات الصلب والصناعات الكيماوية وصناعة وسائل النقل، وعندما انتشرت الأزمة المالية التي بدأت في جنوب شرق آسيا خلال صيف عام 1997 تمددت البنوك بل والأهم من البنوك، الشركات التي اقترضت من أجل التوسع لحد مبالغ فيه.

ولدرجة أصبح اقتصاد كوريا الجنوبية قريباً من الانهيار، ولم ينقذ اقتصاد كوريا الجنوبية إلا قيام حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة الجهود الدولية لإنعاش المؤسسات المالية بها عن طريق مد فترة استحقاق ودائعها. وبعد ذلك بفترة قامت كوريا الجنوبية بإجبار عدد من «تشيبولز» على إعادة الهيكلة ودفع بنوكها إلى تطبيق معايير تجارية عند إقراض الدولة بدلاً من المعايير القائمة على توجيه الدولة.

وهناك مثال لتلك الفوضى المصرفية التي انتشرت كالطاعون في الاقتصاد الياباني منذ انفجار فقاعة سوق السندات والتمويل العقاري في اليابان في نهاية الثمانينات من القرن العشرين، وعلى الرغم من أن اليابان لم تتبن سياسة التخطيط المركزي فإن شكل التوجيه الإداري الذي قامت به تجاه البنوك في اليابان أدى في نهاية الأمر إلى الإفراط في الاستثمار من قبل الشركات المقترضة التي عجزت عن تسديد ديونها وترتيباً على تلكؤ الحكومة وتأخرها في الاستجابة لتلك المشكلة، مما أدى إلى تفاقم وضع الركود الاقتصادي في اليابان في العشر سنوات الأخيرة من القرن العشرين.

* أكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"