المسارات المتعددة للتنميـــة الاقتصاديـــة

23:16 مساء
قراءة 3 دقائق

د. عبدالعظيم حنفي
ترى دراسات اقتصادية أنه في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر كان يمكن فهم المقصود بريادية الأعمال أو على الأقل مصطلحات مثل «المغامر» أو «المبادر» والتي كانت من المصطلحات قيد الاستخدام وقتذاك. وقد كان النشاط الاقتصادي زراعياً في معظمه ومعظم الذين حرثوا الأرض امتلكوها في العادة، ومن ثم فقد كانوا رياديي أعمال مقلدين تقليديين كذلك كانت حال أصحاب محال التجزئة والشركات العاملة بالصناعات التحويلية في قلب المناطق الحضرية، كما كان هناك القليل من الشركات الكبيرة من ذلك النوع البارز في المشهد الاقتصادي. وبإيجاز تؤكد تلك الدراسات أن رأسمالية ريادية الأعمال كانت النظام السائد في الولايات المتحدة والكثير من بقاع أوروبا حتى القرن العشرين، ولم يكن هذا بفعل تخطيط حكومي وإنما بهذه الدرجة أو تلك من التلقائية. وقد نشأت رأسمالية ريادية الأعمال من الصفر، ذلك لأن ما أطلقوا عليه «الرأسمالية الموجهة من الدولة» أو«رأسمالية الشركات الكبيرة» لم تكن قد ظهرت بعد. وهناك أمثلة أخرى لبلدان غنية أو أقرب لهذا اليوم والتي يمكن القول إنها بدأت أيضاً كرأسمالية ريادية الأعمال مثل كندا وأستراليا، ولم يكن محل مصادفة أن كلتيهما نشأت (مثل الولايات المتحدة) كتفريعات من بريطانيا العظمى، ولكن كلاً من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وكندا وأستراليا كانت في المصاف الاقتصادية المتقدمة، أو أقرب لهذا قبل وقوع الكساد العظيم ثم بعد الحرب العالمية الثانية بعد ذلك.
كما لاحظت تلك الدراسات أن تكوين المؤسسات في جميع نماذج البلدان الغنية- حيث ازدهرت ريادية الأعمال من الصفر – ضرورية لضمان إلزامية العقود وحقوق الملكية حتى يتمكن رياديو الأعمال من الاحتفاظ بثمار مجازفتهم، وكذلك المؤسسات القانونية وغيرها من مؤسسات تعقب الفساد وتنمية البنية التحتية البشرية والمادية (التعليم والطرق العامة على وجه الخصوص). كل تلك المؤسسات نشأت بشكل تدريجي وتراكمي، فلم تكن هناك واقعة «مدوية» اضطلعت بإدخال كل هذه الشروط الضرورية في وقت واحد. وكذلك لم تنشأ فجأة في وقت واحد كل التكنولوجيات وأساليب الإنتاج التي طورها رواد الأعمال، ولكن مثلما قال اسحق نيوتن فإن العلماء في كل جيل يقفون على أكتاف عمالقة، والحدود التكنولوجية تتسع تدريجياً بمعدلات مختلفة في الأزمان المختلفة، ولكن بشكل تراكمي وبإيقاع ممكن من مضاعفة مستويات المعيشة كل 25 أو 30 عاماً.
وقد تغيرت الأمور جذرياً بعد الحرب العالمية الثانية، الحرب التي كانت لها تبعات إنسانية مرعبة وتكفلت بإفقار بقاع شاسعة من عالمنا، فيما عدا الولايات المتحدة الأمريكية. فبعد هذه الحرب انقسم العالم أيديولوجياً بين البلدان على جانبي «الستار الحديدي»، ففي جانب كانت الاقتصادات التي مارست شكلاً ما من الرأسمالية، وفي الجانب الآخر تلك التي خضعت اقتصاداتها للتخطيط المركزي وبالتطابق مع هذا الانقسام، كان بعض – وليس كل – الاقتصادات الرأسمالية نظماً ديمقراطية أيضاً (بينما كان البعض الآخر نظماً تسلطية ولم يطور أشكالاً من الحكم الديمقراطي إلا فيما بعد) بينما كانت اقتصادات التخطيط المركزي نظماً تسلطية يسيطر عليها حزب أوحد هو الحزب الشيوعي، وبعد منافسة على كسب الحلفاء فإن الفوز في النهاية كان إلى حد كبير للرأسمالية والديمقراطية. كما انتشرت أشكال مختلفة من الرأسمالية التي اعتنقتها فيما يبدو. وبعد انتهاء الحرب تقسم تلك الدراسات البلدان إلى عدة مجموعات عريضة: 
(1) بلدان اختارت شكلاً ما من قيادة الدولة، بخاصة «النمور» الآسيويون والهند. 
(2) بلدان ظهر فيها شكل ما من الرأسمالية الاوليجاركية ووجد الكثير منها في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرها. 
(3) بلدان نادرة، مثل تايوان، شجعت ريادية الأعمال وتجنبت إلى حد بعيد تدخل الدولة ( اقتداء بالنموذج الأمريكي) فيما عدا تعزيز الصناعات أو القطاعات الواعدة بفرص التصدير.
(4 ) اقتصادات أوروبا الغربية واليابان التي اعتمدت أول الأمر ريادية الأعمال ورحبت بالاستثمار الأجنبي بعد الحرب، ولكنها تسامحت عملياً – وحتى رحبت- مع نمو الشركات الكبيرة ثم سيطرتها فيما بعد. يضاف إلى هذا أنه بعد سقوط جدار برلين، انتقلت الاقتصادات المخططة مركزياً في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي السابق والصين، بسرعات مختلفة نحو أنواع مختلفة من الرأسمالية. 
* أكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"