إيطاليا بين القوة والضعف

00:06 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

تلعب إيطاليا دوراً مؤثراً وفاعلاَ في محيطيها، الأوروبي والمتوسطي، فهي من الدول المؤسّسة للسوق الأوروبية المشتركة، وتملك قوة ناعمة مشهوداً لها في كل قارات العالم، بفضل إرثها التاريخي والثقافي لكونها تعتبر، إلى جانب اليونان، المصدر الأساسي والمرجعية الأولى للتراث الثقافي الغربي، وتحظى المنتجات المادية والفنية والثقافية الإيطالية بسمعة طيبة، أوروبياً وعالمياً، ورغم ذلك فإن هناك أسباباً داخلية تاريخية وسياسية ومؤسساتية تجعل إيطاليا تحظى بحضور محتشم على المستوى الدولي، لا يتماشى لا مع قوتها الراهنة، ولا مع الميراث الحضاري والإمبراطوري لروما.

   ويحاول الباحث فريديريكو بيتروني، في حوار أجراه معه جون بلاتيست نوي، أن يبرز في هذا السياق الأسباب التي تجعل إيطاليا تمارس دوراً جيوسياسياً لا يتماشى مع كل ما تملكه من مقومات القوة الثقافية والصناعية، فهي دولة تحيط بها المياه من كل جانب، ولكنها لا تعتبر قوة بحرية مقارنة بالبحريتين البريطانية والفرنسية، ولديها تقليد ضعيف في ما يتعلق بالحكم المركزي للدولة في روما نتيجة لطبيعة هرم السلطة الذي تخضع له المؤسسات السياسية، لاسيما السلطة التنفيذية بقيادة رئيس الحكومة الذي يخضع تعيينه لتجاذبات سياسية بين القوى المختلفة في البلاد، ما جعل سلطته هشة، الأمر الذي يفسِّر بقاء إيطاليا في مناسبات عدة من دون رئيس حكومة.

ويؤكد بيتروني أن إيطاليا، وعلى خلاف الشعوب التي لديها عمق تاريخي واضح مثل الفرس والأتراك والبريطانيين واليابانيين والفرنسيين والتي تملك نتيجة لذلك فكراً تكتيكياً وإستراتيجياً وجيوسياسياً متقدماً، هي دولة لا تملك فكراً جيوسياسياً واضح المعالم، من منطلق أن لديها «تقليد دولوي» أقل قوة، وظلت غائبة عن مسرح السياسة الدولية لقرون طويلة إلى غاية توحيدها سنة 1861، حيث كانت شبه الجزيرة الإيطالية منقسمة وتابعة للقوى الأجنبية؛ وفضلاً عن ذلك، فإن تأخر إيطاليا في هذا المجال يعود أيضاً إلى الوصمة السيئة التي لحقت بها بكونها قوة منهزمة في الحرب العالمية الثانية، ما أثر في طبيعة الأدوار الممنوحة لمختلف الفاعلين على المستويين، الإقليمي والدولي، كما أن دخولها في دائرة النفوذ الأمريكي بوصفها قوة منهزمة قلّص من هامش المناورة الاستراتيجية لنخبها، وبالتالي، فعندما لا تتكفل دولة بأمنها الخاص بشكل كامل، فليس هناك سبب يدفعها للتفكير جيوسياسياً.

  وهذه الهشاشة التي نلفيها على مستوى البناء المؤسساتي للدولة في إيطاليا، لا تعني، إطلاقاً، كما يقول بيتروني، أن إيطاليا ليست أمة، بل هي بكل تأكيد أمة منسجمة أكثر بكثير مما تتصوره هي عن نفسها، فهي قائمة على أساس لسان وطني مشترك ليس هناك تنازع بشأنه، وهذا ما يجعل أن كل لسان متكلَّم خارج الإيطالية يتم إنزاله إلى مرتبة اللهجة، هناك أيضاً ديانة ومذهب واحد ممارس من طرف الأغلبية الساحقة من السكان، إذ إنه، ورغم تراجع القناعات الدينية لدى الأفراد، إلا أن الثقافة الكاثوليكية تمثل أهم عناصر الهوية الإيطالية، والجميع يستهلك المنتجات الثقافية نفسها، وليس هناك نزعة انفصالية على غرار كورسيكا في فرنسا، واسكتلندا في بريطانيا، أو كاتالونيا في إسبانيا.

  ويمكن القول إن تأرجح إيطاليا بين القوة والضعف، أي قوتها كأمة عريقة ومتماسكة وضعف تقليدها «الدولوي»، لا يمنع إمكانية تجاوزها مستقبلاً لحالة الهشاشة على مستوى مؤسسات الدولة المركزية لتمارس دورها كقوة جيوسياسة لها أجندات واضحة في أوروبا، وفي البحر الأبيض المتوسط، لذلك فهي تحرص على الدفاع عن مصالحها المباشرة في ليبيا، رغم المنافسة الشرسة التي تواجهها من طرف فرنسا وبريطانيا، وتعمل أيضاً على إقامة علاقة وطيدة مع الجزائر في سياقات لا تنسجم مع المقاربات الجيوسياسية لفرنسا بوصفها القوة الاستعمارية السابقة للمغرب العربي، وهناك مؤشرات أخرى تفيد بأن إيطاليا تتجه، إلى جانب ألمانيا، إلى التخلص تدريجياً من الوصاية الأمريكية، مستغلة في ذلك التحولات الجيوسياسية الجديدة الناجمة عن التوازنات التي تسهم في خلقها الحرب الروسية في أوكرانيا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"