عادي
رسم شاعري مفعم بالحيوية

«من المطر».. السعادة على مشارف لحظة هاربة

23:32 مساء
قراءة 4 دقائق
9
10

الشارقة: علاء الدين محمود

الرسام فلاديمير إيغوروفيتش ماكوفسكي «1846، 1920»، يعد من أبرز الفنانين الروس وأشهرهم على الإطلاق، وهو صاحب تقاليد وأساليب فنية خاصة به، وهو ينتمي إلى المدرسة الواقعية التي نقل تقاليدها إلى ما بات يعرف في روسيا بالواقعية الاشتراكية، وقد اشتهر بانحيازه إلى الطبقات الفقيرة ورصد يوميات مجتمعه في ذلك الوقت، فهو صاحب موقف ورؤية نقدية برزت في أعماله الفنية وخلال ما عرف بفترة الرسم «الديمقراطي» الروسي.

أنتج ماكوفسكي في 1882 معظم أعماله الأكثر أهمية وقيمة، وأصبح أستاذاً بمدرسة موسكو للفنون بعد وفاة فاسيلي بيروف، ومن بين أعظم رسوماته في تلك الفترة «في غرفة الانتظار بمحكمة التوفيق» و«السجين المفرج عنه» و«انهيار البنك»، وبعد نهاية ثمانينات القرن التاسع عشر بدأ ماكوفسكي في إنتاج المزيد من الأعمال القاتمة، وتشمل الأعمال الجوهرية لهذه الفترة «لن تذهب» «على البوليفارد»، وكان ماكوفسكي ينحدر من أسرة فنية، فوالده جامع تحف، وبعض من أخوته رسامين وكذلك ابنه، وفي عام 1894، أصبح عميد المدرسة الإعدادية لأكاديمية الفنون، وكانت له إسهاماته الواضحة خلال حقبة الثورات الروسية.

لوحة «من المطر»، تعتبر من الأعمال الشهيرة للفنان ماكوفسكي، ورسمها في عام 1887، وتعد من التحف الفنية العالمية، وهي تنتمي إلى أسلوبية الفنان الذي كان يتبنى في ذلك الوقت المدرسة الواقعية، واللوحة من تلك الأعمال التي تقف شاهداً على تجارب ومحاولات ماكوفسكي في رصد الواقع والتعبير عنه، كما أنها من اللوحات التي تضع المشاهد أمام أسلوب ماكوفسكي الذي عرف برسوماته التي تحفل بالفكاهة والسخرية، وهي مع ذلك تتسم بالوعي الاجتماعي العميق، وفي الكثير من أعماله ينتقد التعاطف الزائد من قبل الطبقة الأرستقراطية تجاه الفقراء الذين كانوا هم أبطال معظم أعماله ومنها هذه اللوحة التي يرصد فيها أطفالاً يلعبون قرب النهر في يوم ينذر بالمطر، وعلى الأرجح فإن هؤلاء الصغار هم من أبناء الطبقات الفقيرة التي احتفى بها الرسام وأصبحت شخصياتها أبطالاً لموضوعاته الفنية المتنوعة والمتعددة، وفي هذه اللوحة يسجل ماكوفسكي لحظات بريئة طبيعية غير ملوثة بفعل المال، ويبدو أن الفنان كان يرسم لكي يقتنص تلك اللحظات الإنسانية المفعمة بالسعادة الفطرية والأصيلة.

مشهد

رسم ماكوفسكي لوحة «من المطر»، بمشاعر عاطفية مفرطة، ليأتي العمل وكأنه نص شاعري، ونلاحظ ذلك الأمر من خلال توظيف وتوزيع الألوان في ذلك المشهد الطبيعي، حيث الخضرة والجمال، فالأرض مكسية بالعشب، والنهر يجري متدفقا،ً والسماء تكتسي بالغيوم التي تحمل وعد المطر، وبعض الطيور تحلق في مكان منخفض، وتكمن براعة الفنان في صناعة مشهد ساطع يجعل السعادة والإحساس بالجمال تتسرب إلى الناظر الذي سيفتن بتلك الدرجات اللونية الرائعة من الأصفر والأخضر والأزرق، الأمر الذي ساهم في صناعة مشهدية عالية وراقية.

وصف

تتحدث اللوحة عن صبية صغار فرغوا لتوهم من اللعب والاستحمام في النهر، لكن شيئاً ما جعلهم يريدون الذهاب بسرعة إلى البيت، وكان ذلك الأمر هو قرب هطول المطر، حيث إن السماء لم تكن قد أمطرت بعد، لكن الهواء الذي كان يحمل رائحة المطر، وكذلك الغيوم التي بدأت تتجمع في كبد السماء، تدفع الأطفال لكي يسرعوا ويغادروا هذا المكان الجميل الذي يحيط به بستان فيه أنواع من الأشجار والنباتات، ويظهر في مشهد اللوحة سبعة أطفال هم أبطال العمل، غير أن الشخصية المركزية هي الولد الذي يبرز في المقدمة، صاحب الشعر المجعد والنظرة الخارقة والأنف البارز والشفتين اللامعتين، ويظهر وهو يبتسم بمكر، ويبدو أنه قائد تلك المجموعة من الأطفال، ويظهر في الصورة كذلك ستة أطفال إضافة إلى قائدهم، أربعة منهم في المقدمة وثلاثة في الخلفية.

قرار

كان الأطفال قد خرجوا من النهر للتو، وبعد أن شعروا باقتراب المطر قرروا على مضض أن يمضوا إلى حال سبيلهم، ويظهرون في اللوحة وهم يرتدون ملابسهم ببطء وكأنهم لا يرون أن الأمر يستحق، فتلك الملابس المبللة أصلاً بفعل السباحة، ستتعرض للبلل مرة أخرى بفعل المطر القادم، وبينما هم كذلك، يستمرون في الالتفات نحو النهر كما لو أنهم يودون السباحة مرة أخرى، غير أن الطفل القائد الذي يبدو في مقدمة اللوحة كان قد حسم أمره بالفعل، وارتدى ملابسه من أجل العودة إلى المنزل، وكأنه بذلك يحرضهم على سرعة ارتدائهم للملابس.

بكاء

تكمن براعة الفنان في إظهار مشاعر كل واحد من هؤلاء الأطفال، فتظهر في وجوههم انفعالات نفسية متباينة، فهنالك طفل يبكي ضمن الذين في المقدمة، ويبدو أنه لا يريد المغادرة، فهو يرى أنه من الضروري أن تكون هناك إمكانية للاختباء من المطر ومواصلة اللعب والسباحة والمتعة، ويمسك بيده طفل آخر، يبدو وكأنه يحاول أن يهدئ من روعه، بينما يوجد هناك طفل عالق في الرمل، ويرتدي حلة بيضاء وينظر إلى الصبي القائد وكأنه يرجوه بأن يبقى، ويبدو أن جميع الأطفال يريدون البقاء وعدم مغادرة النهر، ولكن بعد أن ينتهي هطول المطر، سيتم نسيان كل شيء، وسيبدأ الجميع في الاستحمام في النهر مرة أخرى.

رمز

اللوحة مفعمة بالحيوية والألق، وتحمل العديد من الرموز، فالفنان قام بإنجاز هذا العمل الفني خلال حقبة لم تخل من الصراع والقتال، فسماء روسيا كانت تنذر بالثورة نتيجة التناقضات الاجتماعية في ذلك الوقت، وهو ما حدث بالفعل في عام 1905، بعد موجة اضطرابات سياسية عارمة اجتاحت مناطق شاسعة من الإمبراطورية الروسية، شملت العمال والفلاحين، مع احتجاجات من نوع العصيان العسكري، ويبدو أن الفنان كان يريد أن يقتنص لحظة صافية يلعب فيها الأطفال تحت سماء زرقاء بعيداً عن أصوات الرصاص، وهي لوحة عن الأمل المفقود حينذاك، وتلون ذلك الخراب الذي عاشه الناس حينها، وكأن الفنان يخلق عالماً افتراضياً موازياً يشكل مهرباً من البؤس.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2s36mx73

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"