فقدان الوَهَج

04:52 صباحا
قراءة 4 دقائق

لم يسبق أن أبدى العرب عموماً قلة اكتراث بالانتخابات الرئاسية الأمريكية كما حدث في المنافسة الأخيرة بين باراك أوباما (الديمقراطي) وميت رومني (الجمهوري) . مبعث اللامبالاة لا يعود إلى السبب التقليدي والثابت برسوخ سياسة المؤسسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط،، إنما مبعث اللامبالاة هذه المرة يعود إلى ما أبداه الرئيس ذو الأصول الإفريقية من سرعة التحاق بالمؤسسة واندماجه بها كرئيس في ولايته الأولى، وتراجعه المذهل عن الوعود السخية التي أطلقها في حملته الانتخابية، وحتى في الأسابيع الأولى لولايته حيال الشرق الأوسط وفي القلب منه قضية فلسطين .

لم يبدِ الرجل تفسيراً لتراجعه، وتصرف باعتبار أن الأمر لا يستحق تفسيراً، والعرب بمن فيهم الفلسطينيون لا يستحقون منحهم تفسيراً . وهو ما جعله يفقد ما بدا أنه تميّزٌ له كرئيس يصعد من صفوف الأقليات، ومن خلفية عرقية تجعل صاحبها أكثر إدراكاً من سواه لمعاناة العالم الثالث وتطلعات شعوبه .

إنها لمفارقة مقيتة أن أوباما الرئيس الذي أعطى الوعود الأكبر (والأفضل)، قد اقترنت ولايته بانطفاء تام لما كان يسمى ب عملية سلمية. الأمر هنا لا يتعلق بمشهد سينمائي تنطفئ فيه الأضواء فجأة على عدد من الأشخاص، بل يتصل بدوام اختلال ميزان العدالة في منطقة حيوية من العالم، واستشراء المظالم وازدراء القانون الدولي، وتحفيز المحتلين كي ينعموا باحتلالهم ويواصلوا إنكارهم لحقوق وحتى وجود شعب آخر، وكل ذلك وبدعم هذه المرة من الرئيس باراك حسين أوباما الذي أضفى مضموناً جديداً على قضية الشرق الأوسط، فلم تعد هذه المسألة تتعلق باحتلال الأراضي العربية منذ العام 1967 وضرورة التوصل إلى تسوية عادلة لها، ولكنها باتت ذات عناوين مثل الملف النووي الإيراني، ثم التعاطي مع موجة التغيير في العالم العربي، وصولاً إلى الأزمة السورية . ومن استمع إلى المسؤولين الأمريكيين خلال السنوات الثلاث الأخيرة مثل وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، فإنه يتصور أن قضية الشرق الأوسط المزمنة قد وجدت حلاً سحرياً لها . . باعتماد التفاوض! . . ولما كانت السلطة الفلسطينية ترفض استئناف التفاوض، فهي المسؤولة عن إعاقة الحل، إلى جانب صواريخ القسام من غزة . التفاوض ولا شيء غيره ومن دون أية متعلقات به كوقف الاستيطان، فإذا سعى الجانب الفلسطيني إلى نيل عضوية لفلسطين في الأمم المتحدة، فإن إدارة أوباما تقاتل لحرمان الفلسطينيين من هذا الحق الذي يضُر بالتفاوض. وحتى عضوية فلسطين في اليونيسكو تلحق ضرراً بالتفاوض. الأفضل ألا يكون للفلسطينيين أي وجود، أو حضور من أي نوع في أي محفل أو أي مكان، بما في ذلك على الأرض التي هم عليها!

هذا ما انتهى إليه أوباما في ولايته الأولى، وقد ساعدته على ذلك السياسة السكونية الخرقاء التي تتمتع بها رئاسة السلطة الفلسطينية، وانشغال حماسبالتمتع بالسلطة في قطاع غزة والتنكيل بالمعترضين، وانشغال العرب بإغلاق الأبواب أمام هبوب رياح الربيع العربي، أو التكيف الاضطراري على عجل معها .

لم تنل السياسة الخارجية الكثير من اهتمامات المرشحين رومني وأوباما، في دولة/ قارة تتعزز فيها السياسة الداخلية بالنفوذ الخارجي . الأزمة المالية الداخلية، والمنظور الأمني وهاجس الطاقة يحدّان من الانتشار الأمريكي التقليدي، أو كما يرغب فيه الجمهوريون في العالم، وذلك بعد تجربتي أفغانستان والعراق . والعالم العربي بات يُنظر إليه أمريكياً من منظور صعود الحركات الإسلامية فيه، والملف النووي الإيراني ونفوذ طهران خارج حدودها، وهو ما سيطبع السياسة الأمريكية إلى إشعار آخر، أما قضية الشرق الأوسط كما يدركها الرأي العام العربي ففي الثلاجة.

هذه الارتسامات كانت قائمة عشية الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وأسهمت بصورة مباشرة في عدم الاكتراث بها في الشارع العربي . وخلف ذلك تنمو القناعة الواسعة شعبياً بأن الشعوب باتت تملك بصورة أو بأخرى تقرير مصيرها، بصرف النظر عما يجري على المسرح الدوليمن تقلبات . وهذه الثقافةهي من بعض التغييرات العميقة التي حملتها موجة الربيع العربي التي لم تهدأ تفاعلاتها بعد، والسياسة الأمريكية الخارجية تظل موضع ريبة عميقة، حتى إن بعض الحكام باتوا ولأسبابهم الخاصة يشاطرون الشعوب هذه الريبة! ومعها انتشار القناعة بأن واشنطن أوباما تسعى إلى تدجين موجة الربيع العربي بما يتعلق بالموقف من دولة الاحتلال، مع السعي إلى عودة نفوذها هنا وهناك في مصر وليبيا وتونس واليمن، وباعتبار أن التغييرات تمت لأسباب داخلية محضة كما تفهم واشنطن الأمر .

في خطاب النصرالذي أطلقه أوباما فور فوزه بولاية ثانية، قال إن هناك شعوباً تقاتل للحصول على حق الانتخاب كشعبنا. في واقع الأمر أن النسبة الأكبر من شعوب ودول العالم باتت تعتمد الانتخابات، وتقر بها وسيلةً للتداول السلمي على السلطة، وليس الولايات المتحدة فقط ولا الغرب وحده . ليست أمريكا هي مصدر الإلهام في هذا الخصوص، ذلك أن الخيار الانتخابي بات حقاً خياراً عالمياً وثقافة كونية . والانتخابات ليست عصاً سحرية تحل كل المشكلات، فالعدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة وحقوق الشعوب في تقرير المصير والحؤول دون التبعية، هي من الاستحقاقات التي تتطلع إليها الشعوب إلى جانب الانتخابات . . ولعوامل كهذه وإضافة إلى ما تقدم، بدت انتخابات أمريكا في أنظار شعوبنا بلا وهج، وفاقدة للجاذبية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"