حصاد على شاطئ المحيط

05:50 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

سمع ملك المغرب الراحل الحسن الثاني عن شاب واعد اسمه «محمد بن عيسى» درس في مصر وأوروبا وأمريكا، وتميز بحس ثقافي رفيع وملكات فكرية وسياسية متميزة ويرعى منتدى بازغاً في مدينة أصيلة ذات المباني العريقة والشخصية المعمارية المتميزة والتاريخ الطويل في شمال المغرب، غير بعيدة عن مدينة طنجة على «الزاوية الإفريقية» عند ملتقى البحر المتوسط، والمحيط الأطلنطي معاً، وجاءه الفتى بموعد حدده القصر الملكي فرأى الملك الراحل شاباً غير متكلف في مظهره أو مخبره ويتصرف ببساطة وذكاء شديدين، فكان أن عهد إليه بعد فترة وجيزة بمنصب وزير ثقافة المغرب، ثم عمل في السلك الدبلوماسي سفيراً لبلاده في واشنطن، ثم أصبح وزير خارجية المغرب، وامتد شغله لذلك المنصب حتى تولى الملك محمد السادس الذي استبقاه لفترة حتى يلتئم شمل العهدين ويحصل الابن على خبرات والده من خلال كبار معاونيه. وتضرب علاقتي بالسيد محمد بن عيسى إلى سنوات طويلة، التقيته في المغرب وفي القاهرة وفي واشنطن وفي باريس أيضاً وتلمست فيه الحس الراقي والأدب الرفيع والفهم الدقيق للحياة المصرية مع حب لها وتعاطف دائم معها، وأتذكر أنني جلست إلى جواره على العشاء في القصر الملكي بالرباط في ضيافة الملك الحسن الثاني، ولاحظت أن صديقي «محمد بن عيسى لا يأكل إلّا قليلًا جداً رغم فخامة المائدة، وتنوع الأطباق فسألته عن السبب فقال لي إنه يمضي على نظام غذائي خاص حدده له الطبيب في باريس، وقال لي إنه سأل ذلك الطبيب (إذا كنت قد منعتني من الطعام الشهي والشراب ومنعت عني معظم مُتع الحياة فبأي مرض سأموت إذاً؟) فقال له الطبيب على الفور ساخراً: (بالنكد طبعاً)، ذلك هو محمد بن عيسى المضيف لمهرجان أصيلة السنوي، وصاحب فكرته وراعي نشأته، وداعم مسيرته، وقد التقيته منذ عامين في الشارقة وحاكمها المثقف يحتفي به ويعطيه جائزة «رجل العام» دولياً وعربياً، وقد دعاني الوزير محمد بن عيسى، عدة سنوات من قبل، للمشاركة في مهرجان أصيلة، ولكن الظروف كانت دائماً بالمرصاد حتى كاد أن يعتب عليّ بسبب ذلك، لذا عندما تلقيت دعوته الكريمة هذا العام شعرت بأنه لابد أن أحضر ذلك المهرجان الفريد خصوصاً بعدما سمعت من كل من حضروه في سنوات سابقة ثناءً وإعجاباً به، ولقد كانت القضية المطروحة ذات أهمية كبرى في هذا التوقيت، فهي تدور حول قضية (نكون أو لا نكون) وقد كنت متحدثاً في يومها الأخير، ودارت أهم الأفكار المطروحة حول النقاط التالية:

أولاً: إذ يحتفل مهرجان أصيلة هذا العام بمرور سبعة وثلاثين عاماً على بدايته عام 1978، فقد امتلك ذلك المهرجان منذ اليوم الأول أسباب النجاح والاستمرار، لأنه وضع تقاليد مضى عليها حتى الآن، ولقد شارك فيه هذا العام من المصريين السادة عمرو موسى ونبيل فهمي ومنى مكرم عبيد وسليمان جودة، ولقد حضر المهرجان هذا العام شخصيات عربية ودولية كبيرة يتقدمهم السيد فؤاد السنيورة رئيس وزراء لبنان الأسبق وياسر عبد ربه من فلسطين ومصطفى عثمان من السودان ورضوان السيد من لبنان والوزيرة سميرة رجب من البحرين وشبلي تلحمي من الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى وزير إيراني سابق، وعدد كبير من نجوم الفكر والسياسة من الدول العربية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

ثانياً: كان محور المهرجان هذا العام هو (العرب.. نكون أو لا نكون) وقد تحدث ضيوف المهرجان ورواده حول هذا الموضوع باستفاضة وعمق، وجاء دوري في جلسة ساخنة موضوعها (الدين والسياسة في العالمين العربي والإسلامي والمشكلات الطائفية الناجمة عن ذلك)، وقد تحدثت بحياد وموضوعية مقدماً الحالة المصرية كنموذج، لأنها الأكثر ثراءً والأبعد تاريخاً، والأقوى تأثيراً في حركة الإسلام السياسي كله، وقد خلصت من الحوار الممتد إلى ضرورة تشجيع روح الأديان السماوية لما تدعو إليه من فضائل يحتاجها المجتمع الإنساني المعاصر من دون الانخراط في عملية توظيف الدين لخدمة أهداف سياسية وأغراض مرحلية، وخصوصاً أن الدين متجزر خصوصاً في الحالة المصرية منذ توصل «إخناتون» إلى «فلسفة التوحيد» مروراً بالإسكندر الأكبر الذي ذهب إلى معبد الإله «آمون» تقرباً إلى المصريين وصولاً إلى بونابرت الذي أصدر منشوره الشهير غداة وصوله إلى مصر، يغازل الدين الإسلامي ونبيه الكريم ليصل إلى قلوب المصريين لذلك فإن الأمر يحتاج إلى حذر شديد عند إقحام الدين في السياسة، لأنها قضية ملتهبة وقد تظل كذلك لعقود مقبلة.
ثالثًا: ما من مرة زرت بلداً إلّا واستبدت بي المقارنة مع أوضاعنا، ولقد شعرت من زيارتي للمغرب الشقيق بالأشواط التي قطعها المغاربة نحو الاستقرار السياسي والتقدم الاقتصادي والسلام الاجتماعي بعد أن قاد الملك المستنير ثورة بيضاء تالية ل«ثورات الربيع العربي»، فسبق الجميع لتلبية مطالب شعبه في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتبنى مطالب المعارضة قبل أن تخرج بها إلى الشارع السياسي، ولقد بهرني التقدم في المملكة المغربية خصوصاً شبكة الطرق الضخمة في أنحاء تلك المملكة مترامية الأطراف، وإن كنت وضيوف المهرجان، من أنحاء العالم، قد شعرنا بإجهاد لقطع المسافة براً بين الدار البيضاء، وكل من طنجة وأصيلة على امتداد أربع ساعات بالسيارات فور الهبوط من الطائرة أو عند العودة للحاق بها، كما أن الإقامة في مدينة طنجة الرائعة بعيداً عن مدينة أصيلة التي تبدو لي أسطورة ترتبط باسم محمد بن عيسى والمسافة بين المدينتين كل يوم ذهاباً وإياباً، كانت هي الأخرى مصدر إرهاق لبعض الحاضرين، وأنا منهم، ولكن ذلك لا يقلل على الإطلاق من ضخامة وفخامة ذلك المهرجان مظهراً وجوهراً، فقد ارتاده المفكرون العظام وروادنا الكبار، ولا أعرف لماذا تذكرت في الجلسة الافتتاحية اسم الروائي السوداني الراحل الطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال» خصوصاً وأنني كنت أقرأ له كل عام انطباعه عن مشاركته في مهرجان أصيلة الثقافي، وما يحيط به ويرتبط بفعالياته.
إن المهرجانات الدولية المرتبطة بالثقافة السياسية هي عنصر فاعل في تطوير الفكر وبلورة الرؤية واستشراف المستقبل.. التقدير ل «محمد بن عيسى»، والإعجاب ب «أصيلة»، والتحية لأشقائنا على شاطئ الأطلسي أو عند التقائه بالبحر الأبيض المتوسط بحيرة الحضارات، والمخزون التاريخي للثقافات، والملتقى الروحي للديانات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"