الاستراتيجية العسكرية الأمريكية الجديدة

04:18 صباحا
قراءة 3 دقائق

في وقت يسود التقشف بفعل الأزمة الاقتصادية وتتراجع أوروبا ويتعرض فن الحرب لتقلبات ومراجعات أساسية، فإن الاستراتيجية العسكرية الأمريكية تعيش هي الأخرى مرحلة انتقالية . الجيش الأمريكي يخرج من عقد كامل من التخبط والفشل في العراق وأفغانستان مضطراً إلى تخفيض عديده، لاسيما أن البنتاغون قرر الاعتماد، من الآن فصاعداً، على قوات خاصة أكثر رشاقة ومرونة مثل الكوماندوس وعملاء الاستخبارات العسكرية وغيرها . أما الجيش فسيكتفي بتقديم الاستشارات والنصائح وتدريب الجيوش النظامية في الدول الحليفة بدلاً من نشر وحداته في أرض المعركة . وهذا ما بدا واضحاً في ليبيا، العام ،2011 حيث اكتفت واشنطن بالاعتماد على الطائرات من دون طيارين في سياق مفهوم القيادة من الخلف .

وقد بات معروفاً أن واشنطن ستعمد إلى تدعيم حضورها في آسيا-الباسيفيك، المنطقة الأكثر دينامية في العالم، على حساب وجودها في الشرق الأوسط وأوروبا . وإعادة التموضع هذه ستزيد من الاعتماد على البحرية والطيران والأسلحة الدقيقة بعيدة المدى، أي الصواريخ التقليدية والوسائل السيبرنيتية .

والاستراتيجية العسكرية الجديدة ليست قتالية بل تسعى إلى ردع كل اعتداء في مناطق حساسة، من وجهة النظر الأمريكية، مثل محاولات صينية مفترضة للسيطرة على تايوان أو هجوم إيراني على دول في الخليج العربي أو على إسرائيل . وهذا الردع لن تقوم واشنطن به منفردة بل بالشراكة مع حلفاء موثوقين، وعلى المدى الطويل تترجمه مناورات مشتركة واتفاقات سياسية وعسكرية . بهذا المعنى فإن التموضع في آسيا- الباسيفيك هو استمرار لاستراتيجية الردع الأمريكية التقليدية وليس تغييراً في التوجه الاستراتيجي العام .

لكن ذلك يواجه عقبات على المستوى الداخلي الأمريكي، لاسيما في الكونغرس الذي تعصف به الخلافات في المسائل المالية والضريبية، والذي قد يعمد إلى إعاقة تمويل الاستراتيجية التي يصوغها وزير الدفاع هاغل . ففي العام الماضي بيّن الكونغرس عن خلافات حادة بشأن مواجهة عجز الخزينة الفيدرالي البالغ 16 تريليون دولار . وفي الفترات الانتخابية تنكبّ اهتمامات السياسيين على صناديق الاقتراع أكثر منها على إقرار القوانين . وفي ما يتخطى المشكلات المؤسساتية والخلافات بين الجمهوريين والديمقراطيين، فإن الركود الاقتصادي يحد من النفقات الدفاعية والقدرات الاستثمارية في هذا المجال .

خارج الولايات المتحدة تجتاز أوروبا أزمة بنيوية تمنعها من الاتفاق على سياسة خارجية ودفاعية موحدة، ومن الاهتمام الجدي بما يجري خارج حدودها . وقد برهن التدخل الأطلسي في ليبيا عن حاجتها الماسة إلى الدعم اللوجستي الأمريكي .

في آسيا يستمر الصعود الصيني على الصعد كافة، وبعض القادة الصينيين الذي يشاهدون أفول القوة الأمريكية يطالبون لبلادهم بمكان تحت الشمس، كما يضغط الجيش على الحكومة مطالباً بالإشراف على السياستين الدفاعية والخارجية .

من جهتها روسيا البوتينية تقيم سياستها الخارجية على أساس أن الولايات المتحدة عدو يحاول إسقاط النظام الروسي القائم، أو على الأقل إعاقة حركته الطبيعية في منطقة أوراسيا ومحاولته تشكيل ائتلاف قاري تحت سلطته . وعلى الرغم من المشكلات القائمة مع الصين فإن موسكون تجهد لتحقيق شراكة استراتيجية صلبة ودائمة مع العملاق الصيني في مواجهة الغرب وحلف الأطلسي . ويعتبر الخبراء الاستراتيجيون الأمريكيون أن تحالفاً بين موسكو وبكين هو الخطر الأكبر على الأمن الأمريكي، لاسيما إذا استمر انتقال مركز السياسة العالمية نحو الشرق .

في الوقت نفسه يبقى الشرق الأوسط في حال خطرة من عدم الاستقرار، إذ يتعقّد الصراع السوري على خلفية مخاطر استخدام السلاح الكيميائي، وتسير إيران في طموحاتها النووية قدماً، وتتنامى قدرات كوريا الشمالية العسكرية والنووية، ويستمر المأزق في أفغانستان، وتتزايد مخاطر الإرهاب العالمي، ويبقى الاضطراب قائماً بين الهند وباكستان فضلاً عن بقاء الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي من دون حل . . . إلخ . هذه الاضطرابات قد تزداد حدة وخطورة على خلفية الأزمة الاقتصادية العالمية، ما يزيد من الصعوبات التي ستواجهها الولايات المتحدة في الدفاع عن موقعها وفي تشكيل ائتلافات وتحالفات قابلة للحياة في أوروبا وآسيا . ويمكن عندها أن نشهد ليس حقبة جديدة من التعددية- القطبية على المسرح الدولي، ولكن على الأرجح فوضى عالمية تتوقف معها المؤسسات القديمة عن العمل وترفض معها القوى الدولية البازغة التعامل مع ما تعتبره توازناً دولياً ضعيفاً وغير شرعي . هذا من دون الكلام عن ركود اقتصادي دائم يدفع إلى انتفاضات يمكن أن تشعل شرارات حروب كبرى .

هكذا يرى المحللون الاستراتيجيون الأمريكيون إلى المشهد العالمي: فوضى واضطرابات على خلفية أفول للقوة الأمريكية التي يبدو أن الاستراتيجية العسكرية الجديدة ليست سوى تعبير عنه . وهم يحذرون من مخاطره على الاستقرار العالمي، وكأنما بلادهم كانت دوماً الضامن لهذا الاستقرار وليس العابث فيه .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"