عادي

ورش الكتابة.. هل يمكن تعلّم الإبداع؟

00:16 صباحا
قراءة 6 دقائق

الشارقة: جاكاتي الشيخ
تُعد الكتابة إحدى أهم وسائل التواصل البشري، حيث كان لها دور كبير في تنظيم وإدارة المجتمعات، والدول، وتطوّر الحضارات، واستمرار الوعي عبر التاريخ، وقد طوّر الإنسان هذه الوسيلة نظراً للعديد من المتطلبات التي فرضتها سيرورته الحضارية، فتجلت أهمية الكتابة لديه بدوافع منها حفظ المعلومات، وتبادلها، ونشر الأفكار والتعبير عن المشاعر، لتصل في أعلى مستوياتها إلى الكتابة الأدبية الإبداعية.

لقد نالت الكتابة خصوصيتها لكونها تنتمي إلى الإبداع، لا يتقنها إلا من أوتي ملكة خاصة لا تتاح للكثيرين، فكان المشتغل فيها يكتشفها في نفسه، أو يكتشفه آخرون من خلال أسلوبه، فيواصل حتى يفرض لنفسه موضعاً بين المبدعين، إلا أننا شهدنا في السنوات الأخيرة ظاهرة جديدة تجتاح العديد من دول العالم، يسعى الداعون إليها، والقائمون عليها، إلى غرس مهارات الكتابة الأدبية الإبداعية لدى الراغبين في امتلاكها.

إن ورش مهارات الكتابة الأدبية الإبداعية هي سلسلة من المحاضرات وجلسات العمل التفاعلية المتخصصة التي تهدف إلى تعليم كتابة أحد الأجناس الأدبية، رغم أن هناك خلافاً حول إمكانية تعليم كتابتها. فإذا كان من المتعود عليه أن تولد الموهبة الحقيقية مع المبدع، وإذا كان العديد من المبدعين قد ظهرت لديهم ملكات مهارات الكتابة الإبداعية في مراحل مبكرة من حياتهم، فإن هناك ما قد يدل على إمكانية اكتساب تلك المهارات، مثل بعض القصص المتواترة عبر الزمن، كقصة الشاعر الكبير أبي نواس حين سأل مُعلّمَه أَبا مُحرز خلَف بن حَيّان المعروف بخلَف الأحمر: «كيف يمكنني أن أصبح شاعراً؟»، فقال له: «احفظ ألف بيت من أجود شعر العرب، ثم أخبرني»، وبعد أن أتم حفظها جاءه وأخبره، فقال له: «انسها كلها»، وقول أحد المشتغلين بكتابة الرواية: «اقرأ لكل من سبقوك وانسَ أنك قرأت لهم لتتعلم كتابة الرواية»، وهو ما قد يدل على أن الكتابة الإبداعية لا تختلف عن العلوم التطبيقية في شيء، إذ يمكن اقتصار اكتسابها على التدريب المكثف، والتوجيه، فيما قد تعتبر الموهبة مسألة ثانوية تظهر مع استمرار الممارسة ونضج التجربة، فمن يقرأ مثلاً الروايات الثلاث الأولى للكاتب الروسي دوستويفسكي، لا يعتقد أنه يتمتع بموهبة، ولا أن بإمكانه الإبداع في الكتابة، ولكنه أصبح بعد ذلك من أهم أدباء العالم، وقد درس العديد من الروائيين برامج أكاديمية للحصول على درجات علمية في الأدب، واعتمد آخرون على أنفسهم في دراسة تقنيات الكتابة الأدبية الإبداعية في مجالات معينة، ما جعل المشاركين في هذه الورش يقبلون عليها.

  • خبرة

إن بداية ظهور هذه الورش كانت مع جائزة المان بوكر البريطانية، التي تعتبر إحدى أهم الجوائز الأدبية في العالم، حيث تلتزم بمجموعة من التقاليد، من بينها ورشة سنوية للتدريب على الكتابة الإبداعية، يشرف عليها كتّاب معروفون ذوو تجارب طويلة في الكتابة، وتستهدف عادة مجموعة من الكتّاب الشباب، والكتّاب المبتدئين، والراغبين في تعزيز قدراتهم من الفئات الأكبر سناً، حيث يسعون من خلالها إلى اكتساب خبرات جديدة لتطوير مهاراتهم وأساليبهم في الكتابة، إلا أنها شهدت في السنوات الأخيرة انتشاراً كبيراً في العالم، بخاصة في الوطن العربي، وشملت الأجناس الأدبية الأخرى، ودخل الأطفال في إطار المستهدفين بتعليمها. وتنظم كل ورشة في جنس أدبي محدد، حيث يتم الإعلان عنها، وعن مكانها، وقد تكون في الفضاء الافتراضي، وتحدد المواضيع التي سيتم التطرق إليها، والمدة الزمنية التي ستستغرقها، وعدد المشاركين الذين يمكنها استيعابهم، ليتم خلالها عرض مفاهيم الكتابة الإبداعية للمجال المدروس، وأهم الأنشطة التطبيقية التي يمكن استخدامها كمرتكزات، من الفكرة وحتى النشر.

ويشرف على هذه الورش في الأغلب مدرّبون متمرسون، ذوو خبرة إبداعية مشهودة في المجال، وقدرة على شرح المبادئ النظرية، وتوصيلها، والعمل على الدفع إلى تطبيقها وفق مناهج، فكرية وأدبية، مجرّبة، إلا أن ذلك قد لا يكون مضموناً فيها كلها، إذ قد يشرف على بعضها مدرّبون غير متخصصين، يقتصرون على نقل المعلومات بشكل سطحي، من أجل استدرار جيوب المتعطشين إلى تعلم تلك المهارات الإبداعية، ما جعل آراء المثقفين تتباين بشأنها.

  • موهبة

ومن بين آراء المثقفين حول الموضوع، يرى الكاتب علي أبو الريش، أن إنتاج العمل الإبداعي الأدبي يحتاج إلى وجود موهبة، وأفضل فترات العمر لاكتشاف الموهبة هي سنّ الصغر، لأن «العلم في الصغر كالنقش في الحجر»، ولذلك فإن أكبر مشكلة نواجهها في ندرة المواهب – حسب رأيه – هي تجاهل تعليم مادة التعبير لتلاميذ المدارس، فهي التي تغرس فيهم حب الكتابة، وتعوّدهم على إخراج طاقاتهم الإبداعية لتنمو بشكل طبيعي مع مرور الزمن.

علي أبوالريش

ويضيف أبو الريش: «إذا كانت لهذه الورش فوائد؛ فإنها ليست الفوائد المرجوّة، لأن الإنسان كلما كبر في السّن، كلما صعب عليه الاستيعاب التدريجي للأساسيات، بينما ينطبع التعلم في الصغر في الذهن، ومع المشاعر، ولذلك أرى أن التركيز على تعزيز وجود الكتابة الأدبية الإبداعية في تربية الأطفال، من خلال إثراء ملكاتهم وإثارتها، في المدرسة، أو في البيت، سيكون أكثر جدوى، لأن التراكم الذي ينضج في فترة نمو ممتدة، يختلف عما يمكن الحصول عليه من ورشة عابرة، فيجب على واضعي المناهج التعليمية الانتباه لذلك، ويجب على المثقفين الدعوة إليه، فهو أهم أسباب اكتشاف المواهب الحقيقية، من أجل مواكبتها للحصول على مبدعين متميزين».

ويشير أبو الريش إلى أن الثقافة هي السقف الأعلى في بناء المجتمعات، والحضارات، ويجب مراعاة ذلك، بما فيه من خطورة تستلزم الانتباه لكل ما يدور في فلكها، ويؤكد أن الكتابة الإبداعية ليست بذخاً، ولا ترفاً، بل ضرورة وجودية يجب العمل على اكتشافها في الصغر، ويضيف: «أعتقد أن هذه الورش لم تخرّج مبدعين، ولكن بعضها نمّت مواهب إبداعية، كانت بحاجة إلى من يواكبها، ويؤطّرها».

  • منهج

أما الكاتبة فاطمة سلطان المزروعي، التي سبق وأن أشرفت على العديد من هذه الورش، فترى أن لها الكثير من الفوائد، وتقول: «إن ورش التدريب على مهارات الكتابة الأدبية الإبداعية مهمة جداً، ولها دور كبير في تنمية مهارات الشباب والأطفال في الكتابة، فمثل هذه الورش التخصصية هي التي تمكن الكُتّاب الشباب من الإبداع في المجال، حيث تزودهم بالخطوات الصحيحة للولوج إلى عالم الكتابة بطريقة منهجية متكاملة، فهم في أمسّ الحاجة إليها».

فاطمة سلطان المزروعي

وتلاحظ أن هناك جهات رسمية في الدولة تتبناها أحياناً، وتعلن عنها ضمن مبادرات قيّمة، هدفها تشجيع الشباب وحثهم على ممارسة هواياتهم، والسعي إلى تطويرها والاستفادة منها، وتقدم المزروعي شكرها لتلك الجهات الرسمية، وغيرها من الجهات الأخرى المهتمة بدعم الموضوع، لأن أغلبية هذه الأنشطة التدريبية تقام بمبادرات شخصية وتطوعية، من المؤلفين والكتّاب، وللأسف، فإن الكثير من تلك البرنامج تنتهي من دون أن تعقبها أية متابعة مع المتدربين، وبذلك تضيع الجهود التي بذلت فيها، وتضيف فاطمة المزروعي: «إن ما تحتاجه هذه الورش، هو أن تقوم الجهات الثقافية الرسمية باحتواء المبادرات التي تنظمها، ودعمها، والاهتمام بها بشكل أكبر، من خلال وضع منهجية واضحة لها، وتأطير الطريقة التي يمكن أن يتم بها اختيار المدربين المبدعين، بخاصة ونحن نشاهد بعض مراكز التدريب التي تستغل، هذه الورش بفوضوية، كتجارة من أجل الحصول على المال فقط، وبطريقة جشعة، لا تراعي أي معايير جِديّة في اختيار المدرب الماهر لهذه العملية المهمة، فنرى في تقديمها لديهم بعضَ المدربين الذين لا يمتلكون الخبرة الكافية، ولا المهارة، ولا الإمكانات المطلوبة لطرح مثل هذه الدورات المهمة، وبالتالي، فإن المتدرب المشارك في الورشة لا يستفيد منها، ما يسبب له الإحباط في نهاية الأمر، وقد يدفعه إلى الابتعاد عن الكتابة والتأليف، بدل ترغيبه فيها، وتنمية قدراته».

وترى فاطمة المزروعي أن كل ما تتطلبه هذه الورش من أجل الحصول على الفوائد المرجوة منها؛ هو وضع منهج إبداعي متكامل، توضح فيه أساسيات الكتابة الإبداعية المتناولة، ومهاراتها، ومراجعتها، وتحريرها، ونقدها، حتى طريقة نشرها، بما في ذلك محددات العملية الإبداعية الحقيقية التي تتطلب الدراسة، والتقييم، والمتابعة، وكل ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا إذا أبعدنا هذه الورش عن الاستغلال المادي بالإعلانات المزيفة التي صارت منتشرة في وسائل التواصل الاجتماعي تحت مسميات براقة مختلفة.

  • بيئة مُحفّزة

فيما ترى الشاعرة شيخة المطيري، كذلك أن لهذه الورش أهمية كبيرة، حيث تنظم عملية الكتابة وترتب الأفكار، فقد يمتلك الكاتب مجموعة من الأفكار الإبداعية، والمادة اللغوية، ولكن انعدام الخبرة يحول دون توظيف ما يمتلكه من إمكانات، كما تخلق الورش بيئة إبداعية محفزة على الكتابة وتطوير الأفكار، من خلال الجمع بين الكاتب، وزملائه، ومقدم الورشة.

شيخة المطيري

أما عما إذا كانت هذه الورش تخرّج مبدعين حقيقيين أم لا؟ فتعتقد شيخة المطيري أن ذلك الأمر يرتبط بعدة عوامل، من أهمها وجود ملَكة الكتابة الإبداعية في شكلها الأوّلي لدى المستهدف، ثم بعد ذلك تأتي عملية القراءة الدائمة، والاطلاع على كل أشكال المحفزات الإبداعية من ثقافة وفن، وأخيراً الرغبة في الاستمرار، وحب التطوير حتى يشعر الكاتب بأنه عبَر مراحل الكتابة، وخَبِرها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mudrnmm2

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"