ما وراء الاستجابة للكوارث

00:53 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

في المدن ذاتها التي ضربها الزلزال الأخير، داخل تركيا وسوريا، انهارت آلاف المباني، في الوقت الذي صمدت فيه آلاف المباني الأخرى، من دون أن تنهار أو تتصدّع، وقد كشفت تصريحات تركية رسمية، أمنية وقضائية، عن ملاحقة العديد من المقاولين الذين نفّذوا الأبنية السكنية المنهارة، وتمّ إلقاء القبض على بعضهم، ومنهم من كان يستعد لمغادرة البلاد، والتهمة هي الغشّ في المواصفات، وعدم تنفيذ المخطّطات الهندسية كما قدّمتها المكاتب المتخصّصة، إضافة إلى نقص الرقابة على تنفيذ المشاريع، وهذه التهم تصبّ في خانة الفساد، والتربّح المالي، من دون أي حساب للنتائج المتوقفة على ذلك، خصوصاً أن المدن التي ضربها الزلزال، معروفة بأنها منطقة زلازل نشطة، وتتعرّض سنوياً لهزّات أرضية، لكنها لم تكن سابقاً بالقوّة ذاتها للزلزال الحالي.

قد لا يكون بالإمكان توقع توقيت الكوارث الطبيعية بدقّة، لكن العقود الأخيرة، شهدت تقدّماً هائلاً في عمليات رصد الكوارث الطبيعية، من مثل شدّة الرياح، وهيجان البحار والمحيطات، وحدوث انخفاض درجات كبير للحرارة، أو الضباب الكثيف، وأتى هذا التقدّم مدفوعاً بالتطوّرات العلمية، وتطوّر آلات الرصد والقياس، وأيضاً مدفوعاً بالمصالح الحيوية، للمجتمعات والدول والشركات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تعتمد حركة الطيران على عدد من المؤشرات المهمة، لمعرفة الأحوال الجوية، من أجل طيران آمن، ومنع حدوث كوارث إنسانية، تحصد أرواح المسافرين.

يشكل هذا التطوّر العلمي العمود الفقري للاستجابة الاستباقية للكوارث، والحدّ من نتائجها قدر الإمكان، وقد سارعت العديد من الدول إلى اتخاذ تدابير مطابقة لنوعية الكوارث المتوقعة في بيئتها الجغرافية، وفرضت معايير صارمة في طرق تنفيذ التدابير المتّخذة، فاليابان تتألف من نحو 700 جزيرة، وتشهد تاريخياً زلازل مستمرة، ولهذا السبب، أصبحت معايير البناء في هذا البلد ملتزمة بالمواصفات المقاومة للزلازل؛ بحيث تكون الأضرار في العمران والإنسان في حدودها الدنيا، لكن ما هو مهم في الحالة اليابانية، ليس فقط وضع المعايير، أو توفّر التكنولوجيا، وإنما الرؤية العامة التي تتبناها الدولة، ووجود رقابة صارمة على عمليات تشييد المباني، وثقافة مجتمعية ضد الفساد.

لم تعد لاستجابة للكوارث الطبيعية مرتبطة بلحظة وقوع الكارثة؛ بل بما يسبقها، أي بوجود خطة وطنية عامة، تنطلق من التقديرات العامة للكوارث المحتملة، وصولاً إلى التعامل معها أثناء وبعد حدوثها، وكلما كانت الاستجابة استباقية؛ من حيث التوقّع والتجهيز المطلوب، انخفضت حدّة النتائج الكارثية، وتمّ تقليل الخسائر، بينما تصبح هذه النتائج أكثر حدّة في الدول التي لا تمتلك خططاً وطنية للاستجابة الشاملة للكوارث، أو توجد ثغرات معيبة في الخطط نفسها، أو في آليات التنفيذ، ويمكن المقارنة بالأرقام بين حالات متشابهة إلى حدّ كبير، بين الدول التي تتعرّض لكوارث من الطبيعة ذاتها؛ حيث من الممكن ملاحظة الفوارق في النتائج بين بلد وآخر.

في الكثير من الدول اليوم، يتمّ إنتاج جزء كبير من الطاقة التي تحتاج إليها، من خلال المفاعلات النووية، وتقوم الدول التي تحتوي على هذه المفاعلات بوضع سيناريوهات عديدة للأخطار المحتملة، وتضع خططاً لمواجهتها، وهو ما يتطلّب وجود مؤسسات معنية فعلياً بمواجهة هذه الأخطار، ووجود تنسيق دائم فيما بينها، للبقاء في حالة جهوزية تامة، لتفادي وقوع كوارث واسعة النطاق، كما تشترك قطاعات عسكرية ومدنية وخدمية في وضع الخطط وتنفيذها.

إن مأساة الزلزال الأخير لا تزال في بداياتها، على الرغم من الأرقام الصادمة لأعداد الضحايا، التي تقدّر بعشرات الآلاف، لكن هناك أيضاً عشرات الآلاف من المصابين؛ حيث من المتوقع أن قسماً منهم ربما أصيب بعاهات دائمة، إضافة إلى من أصبحوا من دون مأوى، في ظل توقعات للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بانتشار الأوبئة، نتيجة تحلل الجثث، من جهة، ونتيجة إنشاء مراكز إيواء سريعة، تفتقد للكثير من الشروط الصحية المطلوبة، في ظل ازدحام كبير في هذه المراكز من جهة أخرى، ما يجعل من المقيمين فيها عرضة للأمراض المعدية، أو حتى حدوث جائحة «كوليرا» على نطاق واسع.

وإذا كانت الدولة، هي الجهاز المناط به تدبير شؤون المواطنين، فإن هذا التدبير يتأسس على احترام حياة المواطن بالدرجة الأولى، أي احترام حق الحياة، المؤسس للحقوق الأخرى كافة، وكما أن هذا الجهاز موجود فعلاً من خلال الثروة الوطنية، وضرائب المواطنين، فإن من واجبه أن يتّخذ جميع التدابير اللازمة لحماية حقّهم في الحياة، وعدم السماح بالتفريط بهذا الحق، وهو الأمر الذي يشتمل على وضع الكوارث في أجندة اهتماماته، والعمل على الحدّ منها قبل وقوعها، والاستعداد التام بعد وقوعها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yzy3vd6y

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"