لغط سياسي

06:07 صباحا
قراءة 4 دقائق

اللغط الذي يدور حول موضوع الديمقراطية في طول وعرض بلاد العرب يحتم طرح السؤال التالي:

هل أن التركيبة النفسية والذهنية والثقافية لمجتمعات أمة العرب مجبولة على ممارسة اللغط المنهك الممزق العبثي المتجه دوماً نحو التضخم والتعفن في آن واحد، ومجبولة أيضاً على ممارسة مثل هذا اللغط حول كل قضية مجتمعية كبرى تواجهها تلك المجتمعات؟

دعنا نأخذ مثالين: أحدهما في التاريخ البعيد والآخر في الحاضر الذي نعيش .

في التاريخ، ذلك اللغط الذي دار حول موضوع الخلافة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة . فالنبي العبقري أقام وقاد وحكم دولة، وبعد وفاته كان لابد من انتقال تلك القيادة إلى من سيخلفه في حكم تلك الدولة .

لقد كان واضحاً أن المعيار الذي يجب أن يحكم عملية انتقال السلطة هو المبدأ الإسلامي القرآني الذي يتلخص في كلمة الشورى (وشاورهم في الأمر) . والشورى بإطلاقها القرآني لا يمكن إلا أن تكون حق الأمة كلها، أومن كلفته الأمة ليمثلها، في ممارسة الشورى وفي الترشيح لتسلم الخلافة . والأمر على إطلاقه يشمل كل شؤون الجماعة المشتركة بالنسبة إلى كل نواحي وأنشطة حياتها بما فيها نشاط الحكم .

لكن ما إن دفن الرسول حتى بدأ اللغط . أول اللغط هو حول الجهة التي يجب أن ينتمي إليها الخليفة الجديد: هل الأفضلية لمن ينتمي إلى المهاجرين أو الأنصار أو إلى البيت الهاشمي؟ وتفرع ذلك النقاش إلى التفاضل القبلي وليس الديني فقط . فإذا كان العرب لا يدينون إلا لقريش فإن الأفضلية لمن ينتمي إليها .

ثم أقحم الموضوع الشائك المتعلق بوجود أو عدم وجود وصية نبوية بشأن الخلافة . وكان ذلك تهيئة ومدخلاً لأهوال الفتنة الكبرى في الإسلام الوليد، لينتقل انقسام الأمة من لغط سجالي سياسي، يضبطه الورع والخوف على الدين الوليد، إلى محاولة حسم ذلك اللغط بالسيف وبموت الألوف .

وأخيراً جاءت معركة صفين الشهيرة ليسدل الستار على أصل الموضوع، وهو تطبيق مبدأ الشورى القرآني الملزم للأمة، وليدخل المسلمون في ليل .

وإبّان كل ذلك وبعده تفجّرت السجالات الفقهية والكلامية حول موضوع الشورى: نوعه وأصحابه ومدى إلزاميته، حول أنواع معارضة الحكم وإزالة الحاكم: عبر الثورة أو عبر أهل الحل والعقد أو عبر ديوان المظالم، حول درء الفتنة إلخ . . . ومن أجل تقوية هذا الرأي أو ذاك كان لا بد من الانقسامات الدينية المذهبية التي أدخلت في صراعات السياسة، والتي استعملت بانتهازية من قبل تحالف علني أو ضمني بين الكثيرين من سلاطين الاستبداد والكثيرين من الفقهاء الناطقين باسم أسيادهم .

وهكذا استطاعت عبقرية العرب إبقاء ذلك اللغط حيّاً، بين مد وجزر، إلى يومنا هذا . بهذا أضاع العرب والمسلمون فرصة تاريخية، عبر أكثر من أربعة عشر قرناً، من إمكانية تطوير مبدأ إسلامي عام ليقترب شيئاً فشيئاَ من نظام حكم يعتمد الأمة كمصدر للسلطات ومؤسسات حكم متوازنة، أي ليقترب من نظام حكم شبه ديمقراطي .

في زمننا الحديث وإلى يومنا الذي نعيش، يتعامل العرب مع موضوع الخلافة الديمقراطية بمنهجية لغط الخلافة الشورية نفسها . لاتزال هناك محاولات لاختصار الأمة في هذه الجماعة أو ذلك الحزب أو تلك الجماعة العسكرية أو أهل ذلك المذهب أو تلك العائلة التاريخية . لا زال هناك حنين إلى اختصار الأمة في أهل الحل والعقد وازدراء لجموع الغوغاء الشعبية، وبالتالي فالديمقراطية لا تصلح لمجتمعات العرب .

وعبر قرن لم يتوقف اللغط حول مفهوم الديمقراطية، والمحددات الدينية التي يجب أن تحكمها، ومدى تماثلها مع مفاهيم الشورى التاريخية، ومعوقات الانتقال إليها، والمراحل الانتقالية التي يجب أن تسبق الأخذ بها، وحول تمثلها في ديمقراطية سياسية أو اقتصادية أو في الاثنتين معاً، وفي المدة الأخيرة في مدى تمثلها في خروج الملايين في الساحات والشوارع تحت مسمى الديمقراطية الثورية .

وبالطبع هناك إشكاليات الديمقراطية والثقافة العربية الشعبية، والديمقراطية والخصوصية العربية، والديمقراطية والعلاقات البطريركية في العائلة العربية، والديمقراطية والرقابة عليها من قبل علماء الدين، والديمقراطية وضبطها من قبل المجالس الاستشارية المعينة، والديمقراطية وقضايا حقوق المرأة، والديمقراطية والقبلية والعشائرية والعائلية، والديمقراطية وتدخل العساكر لحمايتها، والديمقراطية والشرعية الانتخابية . إنها إشكاليات، بعضها حقيقي وبعضها متخيل، ولكنها تطرح وتناقش ويجري اللغط من حولها في المؤتمرات ووسائل الإعلام وعلى صفحات الكتب والجرائد وعبر وسائل التواصل الاجتماعي الجماهيري .

وها هو الربيع العربي الذي جاء كموجة ديمقراطية كبرى نجح البعض في إدخاله في ألف لغط ولغط لتضيع الأهداف الأصلية وليحل محلها لغط سياسي ومذهبي يمكن أن يقود إلى التشويه والحرف والإغواء، تماماً كما حدث للشورى في تاريخ ضياع الفرص .

قد يقول قائل إن هذه النقاشات والاختلافات ضرورية لبلورة مسار ثابت . ما نأمله ألا يحتاج ذلك لأربعة عشر قرناً آخر من الزمن الذي تفنننا في إضاعته .من هنا أهمية الانتقال السريع للنضال من أجل الديمقراطية والانخراط في ممارستها بدلاً من ممارسة اللغط الذي لا ينتهي .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"