حدث يمني يستعصي على النسيان

02:55 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسن العديني

بعد أربعين شهراً في الحكم اغتيل الرئيس اليمني الأسبق إبراهيم الحمدي وعدد من مساعديه في انقلاب نادر، وربما عديم المثال.
الحق أنه انقلاب قريب الشبه بالمذبحة التي دبرها محمد علي باشا والي مصر للمماليك في قلعة صلاح الدين بمثال وفارقين.
المثال أن مهندس مذبحة المماليك محمد لاظوغلي صاحب الميدان الشهير في القاهرة ومهندس اغتيال الحمدي معاون شبيه للذي تولى بعده. وأما الفارقان فالأول أن المماليك لقوا حتفهم بعد مائدة حافلة بالمباهج، في حين أعفي الحمدي ورفاقه من طعام يثقلهم في موتهم وعاجلهم الداعون إلى المأدبة قبل أن يعودوا إلى بقية الضيوف للغداء على رائحة الدم. والثاني أن محمد علي كان يؤسس لمشروع وطني خشي عليه من مؤامرة خصومه وأما قاتلو إبراهيم الحمدي فكانوا ينفذون مؤامرة مشبوهة ويسعون إلى سلطة أعطتهم النفوذ والمال ومنحتهم الصيت دون المجد.
لكن لماذا استذكار المأساة بعد 399 عاماً ؟ وهل للوقوف على الأطلال مغزى أم هو الحنين إلى الماضي و استمزاج العذاب؟
في اليمن صعد إبراهيم الحمدي إلى الحكم بانقلاب نظيف طوى سبع سنوات من المرارات لعهد صنع انقساماً في الجيش وحرباً طائفية في صنعاء وأخرى مع عدن، وفتح أبواب المعتقلات والسجون والمذابح للطلائع البازغة من القوى الوطنية، كما أمعن في الفساد وإذلال وتجويع فقراء الريف على نحو أعاد أجواء حكم الأئمة ولم يكن مضى على إسقاطه أكثر من خمس سنوات.
كل أولئك ولم يحجب الضوء رجل في قلب الطبقة الحاكمة لا يشبه ترهلها ولا انغماسها في المباذل. وفي حمأة فسادها أشرف إبراهيم الحمدي نائب رئيس الوزراء على إعداد وتنفيذ البرنامج الاقتصادي الثلاثي لتوفير البيانات اللازمة للانطلاق نحو التخطيط الشامل. ووسط الطبقة مكتهلة التفكير كانت كاريزماه تخطف الأبصار، شاب مفعم بالحيوية والطاقة والخيال. وكذلك استطاع أن يقفز برشاقة من المركب الواقف على المياه الآسنة ويبحر بشراعه في خضم مستقبل مختلف.
لاح الحمدي أمام الشعب صادقاً في تبنيه الشعار البسيط: التصحيح المالي والإداري وبناء الدولة الحديثة ذات النظام والقانون كما ردد كثيراً ومارس مخلصاً. وفي عهده تم بالفعل إنجاز القوانين المؤسسة لدولة حديثة أنشأت أهم الأطر الجديدة كجهاز الرقابة والمحاسبة والنيابة العامة، وحتى مكتب رئاسة الدولة. ومن الوهلة الأولى تفاعل الشعب معه ومنحه تأييده وكشف عن طاقات خلاقة أخذ وجه اليمن بفضلها يتغير بسرعة مذهلة.
في ذات الوقت توسعت الحركة التعاونية التي أنشأها قبل تربعه على سدة الحكم وشملت المدن والبلدات والقرى، وبإلهام منه خرج الناس بالأيادي والمعاول ليقهروا قسوة الطبيعة ويقيموا المدارس والمراكز الصحية وخزانات الري ومياه الشرب النقية في أقاصي البلاد.
فضلاً عن دورها التنموي عكست التعاونيات وجهاً سياسياً بالغ الجمال، إذ قامت على الانتخاب والمحاسبة وإعادة الانتخاب، زمنياً كل سنة، وجغرافياً من القرى صعوداً إلى العاصمة.
في صعيد مواز تجددت الحيوية في النقابات العمالية والطلابية. ومن أجل حشد المدخرات وتوجيهها للاستثمار أنشئت أربعة بنوك متخصصة للإسكان والصناعة والزراعة و التعاونيات سيجري فيما بعد تصفية بعضها والانحراف بالأخرى إلى أنشطة مشبوهة أولها تنظيف أموال الطبقة الحاكمة وحلفائها الطفيليين.
ولم يكن الحمدي غافلاً عن الأمن القومي العربي والأمن الإقليمي، وهو صاحب مبادرة التجمع لحماية أمن البحر الأحمر فاستضاف بتعز قمة رباعية ضمت إلى جانبه رؤساء السودان والصومال واليمن الجنوبي.
ومع دول الخليج أرسى علاقة سياسية متينة وتعاوناً اقتصادياً مثمراً، وبوجه خاص مع دولة الإمارات. تلك العلاقة التي أنجزت سد مأرب وخلدتها لوحة الاستقبال الجماهيري الكاسح للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في تعز.
وتطول القائمة في إنجازات زعيم حقيقي أجهض مشروعه وذهب اليمن من بعده في سياسات طائفية وعشائرية، إقصائية واستحواذية. وبقانون التراكمات الكمية الذي أدى إلى تغيرات كيفية حدث الانفجار الكبير، هذا الذي أشعلت النار في باروده ظهيرة الثلاثاء 11 أكتوبر 1977.
إنه حدث يستعصي على النسيان، فما زال دويه مستمراً .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"