العروض.. هوية الشعر

03:28 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد عبدالله البريكي

عاش الشعر العربي منذ عصر ما قبل الإسلام إلى بداية العصر الحديث مرحلة ازدهر فيها ووجد الاحتفاء من الناس فسكن القلوب ورسخ في الذاكرة واحتفت به المناهج وتردد في المناسبات وعاش بين المجتمعات وأصبح حديثهم ورددوا أجمل أبياته، ثم بدأت هذه الحظوة تتعرض إلى التشويه بطرق شتى، وحاول البعض أن يقلل من هيبته باعتباره شيئاً من الماضي لا يصلح لهذا العصر فبدؤوا في اختراع وجه آخر يختلف عن شكله ولا ينتمي إلى نسبه، بل وتعرض إلى أساسياته بدءاً من شكله إلى فنياته، ولذلك فإن بداية نهاية أي مشروع أو رمز تبدأ من إسقاط هيبته من القلوب، فإذا سقطت هذه الهيبة بدأت مرحلة التخلي عنه والتشكيك فيه وإلصاق التهم والنقائص به والدعوة إلى التخلص منه، ومتى تحقق هذا الهدف بدأ عقد الوصل ينفرط، وبدأت الهوية تختفي والحضارة تنسى.
والشعر واللغة لأمة العرب هما من أساسيات الحضارة والهوية وبهما تفخر، ولذلك فإن السعي إلى تشويه هذه الرمزية وإزاحتها أو تهميشها سيؤدي إلى مزالق خطرة، وحقيقة إن المناهج الدراسية لها دور كبير في رعاية البذرة الطيبة ومدها بالرواء الذي يجعل من جذورها حية قادرة على النمو من خلال ربط الأجيال بتاريخها الشعري العظيم وإرث أمتها وكنز حضارتها، وتعويدها على حفظ تراثها الشعري العربي لتتعود على فنه وجماله أسوة بما كانت تقوم به القبائل العربية من إرسال أبنائها لتعلم الشعر وما لهذا الأمر من دلالات كثيرة.
وإذا تطرقنا إلى الحديث عن العروض فإن بحور الشعر العربي كانت موجودة منذ ظهوره، وأنشد عليها شعراء العصور إلى أن جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي عبقري اللغة فأسس هذا العلم ودوّنه خوفاً عليه من الضياع والتفلّت من الأجيال، وبينما يرى البعض أن العروض ما هي إلا قيداً، يراها من يكتب الشعر الأصيل أساور وقلائد ومزايا تمايز هذا الجنس الأدبي عن غيره من الأجناس.
والعروض هي نظام يضبط إيقاع وحركة ومسار القصيدة، وفي هذا العصر نجد التخبط يجتاح الكثير من الشعراء بدعوى التجديد وإلغاء السابق، فإحياء علم العروض على يد الخليل كان بمثابة نقطة تحول في تاريخ الشعرية العربية حيث أتاح لكل شعراء المستقبل أن يعرفوا أن للشعر ضوابط، وأن القصيدة تستحق العناء ومحاولة تزيينها بأجمل الأثواب عبر الإيقاعات الخفية والظاهرة، لكننا لا يمكن أن نتجاهل مستجدات العصر والطفرة الشعرية التي جددت اللغة وأحيت بنيتها من خلال الغوص في تفاصيل الحداثة، فلا يمكن أن تناقض القصيدة المكتوبة الإيقاعات الخليلية العصر، خصوصاً إذا كانت تمتلك روح العصر وطزاجة المفردات، فليس من المعقول أن نرث من الشعر العربي موسيقاه فقط وننسى التجديد وتحديث القصيدة المكتوبة على الأوزان الشعرية المعروفة، فالتقليد لمجرد السير على الثوابت في الشعر لا يؤسس لمعنى الحداثة، فأنا أؤمن بأن الإيقاع هو جزء من الشكل الجمالي للقصيدة، لكنه ليس كل الشعر إذ يجب توظيف الموسيقى لتخدم الشاعر الذي يمتلك القدرة على صياغة أفكاره بطريقة عصرية تتخطى حدود المألوف، لأن الخليل ذاته ما كان ليرضى أن يستخدم الشعراء البحور الخليلية لمجرد النظم وكتابة القصيدة على البحر البسيط أو الوافر أو الكامل أو أي بحر من البحور المعروفة.
فإذا كنا نحب شعرنا العربي ونؤمن به وننظر إليه نظرة إجلال فلا بد أن ننصفه من خلال تجانس الموسيقى مع المعاني والبعد كل البعد عن النظم الذي لا يجدد ولا يبعث روحاً جديدة في الشعر العربي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"