التباعد بين أنقرة و”تل أبيب” مرشح للاستمرار

04:28 صباحا
قراءة 4 دقائق

من حسن الطالع والتدبير أن العلاقات لم تستأنف بعد بين تركيا والكيان الصهيوني خلافاً للانطباع الذي ساد الأسبوع الماضي في ختام جولة أوباما في المنطقة، ومبادرة نتنياهو بالاعتذار هاتفياً من أردوغان .

معلقون سارعوا إلى الاستنتاج بأن عودة العلاقات بين الجانبين، تنذر بتغير كبير أو حتى انقلاب استراتيجي في معادلات المنطقة . غير أن شيئاً من ذلك ليس مرشحاً للحدوث في الأمد المنظور وخلال تولي حزب العدالة والتنمية الحكم .

كانت أنقرة قد اشترطت لإعادة العلاقات الاعتذار عن جريمة قتل تسعة من رعاياها كانوا على متن السفينة مرمرة، وتعويض ذوي الضحايا ورفع الحصار عن قطاع غزة . وقد تمسكت على الدوام بهذه الشروط الثلاثة . وبينما بدا أن الاعتذار الرسمي يفتح الطريق نحو تغيير الأجواء، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث . وها هي الأخبار تترى عن خلافات بين الطرفين على التعويضات، ويُفترض أن هذه المسألة هي أيسر نقاط الخلافات .

كما يفترض أن الجانب الصهيوني سيكون على استعداد للتساهل فيها خاصة أن المال يمكن دفعه من طرف متبرعين صهاينة مثلاً، وليس من حساب الخزينة . أما رفع الحصار عن غزة فهو مسألة المسائل، ونستذكر أن العلاقات الثنائية قطعت وتوقف التعاون العسكري إثر الحرب على غزة العام 2008 . تتحدث تل أبيب عما تسميه تسهيلات لإدخال مواد تموينية إلى القطاع، غير أن غزة محاصرة من البحر ومن حق مينائها أن يعمل . كذلك الحال مع الملاحة الجوية، وقد أقيم مطار في القطاع في عهد الراحل ياسر عرفات، فضلاً عن الحصار البري الذي يفرض حواجز بين غزة والضفة الغربية المحتلة .

والحال إن زيارة أردوغان المزمعة إلى القطاع، هي بمرتبة استكشاف ميداني للأوضاع، علاوة على مغزاها السياسي، إذ ارتأى رئيس الوزراء أن يزور غزة بعد الاعتذار من تل أبيب . وليس معلوماً على وجه التعيين حتى كتابة هذه الأسطر متى تتم هذه الزيارة، لكن من الواضح أن هذا الحدث يأتي في سياق منحى جديد مفاده أن استئناف العلاقات مرهون ليس باعتبارات ثنائية فقط، بل بالوفاء لحقوق الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال والحصار، وهو شرط لم تضعه أطراف عربية تجاه تل أبيب .

قبل أسابيع فقط كانت صحف صهيونية تصف أردوغان بأنه لا يختلف بشيء عن أحمدي نجاد، وذلك بعدما اعتبر المسؤول التركي أن الصهيونية ضرب من ضروب العنصرية في مؤتمر للأمم المتحدة في روما . ومع أن ثمة فرقاً بين أردوغان ونجاد، إلا أن الحملة على الأول تكشف مناخاً صهيونياً مؤداه أن هوّة أيديولوجية لا سياسية فحسب، باتت تفصل الجانبين . هذه الهوّة هي التي تجعل من عودة عقارب الساعة إلى الوراء أمراً متعذراً، حتى لو جرى لاحقاً ترميم العلاقات بصورة أو بأخرى . والنفوذ الذي باتت تتمتع به تركيا في العالم العربي والإسلامي، من دون أن تهتز علاقاتها الأوروبية والأطلسية، يغني أنقرة عن إقامة علاقات وطيدة مع تل أبيب، بل إنه يملي ألا تكون هذه العلاقات وثيقة، والأفضل والأقرب إلى المنطقة والمصلحة، أن تتوقف هذه العلاقات ما دام نمو الكيان الصهيوني مرهوناً بتكريس المظالم وتوسيعها ضد الغير وهؤلاء جيران تركيا، وما دام هذا الكيان يتمتع بصفة وسلوك دولة إمبريالية توسعية .

أما تل أبيب فمصلحتها كبيرة بل هائلة في إعادة العلاقات . فتركيا رغم تباعدها السياسي عن إيران، فإنها ظلت تحتفظ معها بعلاقات وثيقة وتعاون اقتصادي واسع، وتسعى حكومة نتنياهو الجديدة إلى نشوء قدر من التعاون مع أنقرة يتيح لها تهديد طهران بعدما نالت سماحاً من أوباما خلال زيارته الأخيرة بحرية التصرف، وهو ما تنأى أنقرة عنه كُليةً، لإدراكها حجم مخاطر هذه المواجهة، وقبل ذلك لأن هذه المواجهة غير مبررة . وبما أن العسكر لم يعودوا هم أصحاب القرار السياسي في بلاد الأناضول، فإن تل أبيب تفتقد بالفعل إلى من قد يغضّ الطرف عن طموحاتها غير المشروعة في لعب دور شرطي المنطقة .

وبدرجة أقل فإن الأزمة السورية المحتدمة، تثير الشهية الصهيونية للتدخل في مرحلة من المراحل، وتطمح( تطمع) تل أبيب إلى أن يصار إلى تنسيق ما مع أنقرة، لكن هذه المسألة تثير حساسية أكبر لدى أنقرة التي تدرك أن الوضع السوري حاضراً ومستقبلاً، وأيا كانت وجهة التطورات، على جانب من التعقيد لا يحتاج معه إلى أيد صهيونية حانية .

يتردد أن واشنطن تعمل بصمت من أجل تذليل العراقيل التي تعترض التطبيع بين الجانبين، وواقع الأمر أن واشنطن تقوم بهذه الجهود منذ أربع سنوات على الأقل من دون أن تحقق مبتغاها .

الموقف التركي حتى الآن يستحق التحية خاصة إذا ما استذكرنا أن هناك إرثاً ثقيلاً من تحالف وثيق بين أنقرة وتل أبيب دام لأكثر من نصف قرن نشأت خلاله شبكة من المصالح والامتدادات لدى الجانبين، ومع ذلك نجح حزب العدالة والتنمية بصورة متدرجة في تحقيق انعطافة نوعية، تجمدت فيه العلاقات ثم توقفت مع التمتع بإسناد شعبي داخلي لهذا التحول، وهو ما يحسب جهداً ممتازاً لخدمة قضية العدالة والأمن في منطقتنا .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"