في بعض دلالات العدوان

04:53 صباحا
قراءة 4 دقائق

لم تكن حرب الأيام الثمانية على غزة كسابقاتها من حروب واجتياحات . لقد تغيرت معادلة الصراع مع حدوث توازن نسبي في القوى بين الطرفين الطرف الصهيوني/ ومنظمات المقاومة الفلسطينية . الاجتياحات السابقة المتكررة والحرب التدميرية أواخر العام 2008 ومطلع العام 2009 فرضت هذا التغيير باللجوء إلى العسكرة كخيار لا مفر منه، أمام عدو يستخدم بكثافة سلاح الطيران والصواريخ ويتفادى المواجهات البرية . الثورة المصرية والعلاقات الناشئة بينها وبين حركة حماس مكّنت من تعديل الميزان العسكري .

اضطر العدو إلى التراجع عن الحرب البرية التي هدد بها، وتم إبرام اتفاق التهدئة مع الطرف الفلسطيني من موقع يكاد يكون متكافئاً . هذا تطور مهم للغاية . لقد أراد العدو أن يجنح الطرف الفلسطيني للعسكرة كي يسهل عليه تغطية اعتداءاته، بتصوير غزة على أنها غابة سلاح . حسناً، لقد انقلب السحر على الساحر: صهاينة باتوا يهربون في الطرقات ويبيتون في الملاجئ لثمانية أيام، ووصل مدى الصواريخ إلى تل أبيب . وقد اضطر العدو إلى اللجوء إلى وسطاء إقليميين وعلى الخصوص مصر كي يجد منفداً من مواجهة مُكلفة . لقد تغير الوضع عما كان عليه قبل أربع سنوات . لن يعود شن الحرب ورقة انتخابية يستخدمها المهووسون في تل أبيب، للارتقاء في صناديق الانتخاب على سُلّم الدم الفلسطيني . تكاد الحرب تصبح نذير شؤم . فالاستطلاعات الأخيرة الخميس الماضي 22 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، (مركز بلانس بوليتكس) تفيد أن حرب عمود السحاب لم تحقق أهدافها (ستون في المئة)، وأعرب سبعون في المئة في المناطق الجنوبية القريبة من قطاع غزة عن رضاهم على وقف إطلاق النار، وتسعة وستون في المئة قالوا إن قوة الردع قد ضعفت .

أجل حظيت الحرب بدعم سياسي ومعنوي من واشنطن والغرب، لكن هذه الأطراف الدولية النافذة أيدت بصور مختلفة الهدنة والتهدئة بين الطرفين . لقد بات لدى الفلسطينيين قوة ردع، وإن تكن غير متكافئة، لكن بالنظر إلى الثقافة السائدة في المجتمع الصهيوني، ثقافة الحرب من دون كلفة تقريباً، فإن قوة الردع هذه تشكل متغيراً على جانب من الأهمية . وفي وضع قطاع غزة بالذات، حيث الكثافة السكانية العالية، فإن مجرد تحييد آلة الحرب الصهيونية، وتكبيلها يعدّ تقدماً في حد ذاته، وهو ما نص عليه اتفاق التهدئة .

لكن بما أن الحديث يجري هنا عن تقدم في مجمل الوضع الجيو سياسي، وعن متغيرات إيجابية في موازين قوى الردع، فإنه لا تغدو هناك حاجة أو مسوغ للحديث عن انتصار مُبين . تعزيز الثقة بالنفس ومراكمة الإنجازات والبناء عليها، لا يبرر اللجوء إلى المبالغة في تصوير الأمور، فما حدث هو صمود عظيم ومُشرف كشف عن قدرات دفاعية متنامية، غير أن ذلك ينبغي ألا يقود إلى الحديث عن انتصار، وإلا لكان الطموح الوطني منخفضاً مادام يتم تصوير ما جرى على أنه انتصار، وليس أقل من ذلك . لا . إن الطموح بالنسبة إلى أهل القطاع (أزيد من مليون ونصف مليون نسمة)، هو أبعد من ذلك، إنه يتعين ويتحدد بكسر الحصار البحري والجوي، وفتح التواصل البرّي مع الضفة الغربية المحتلة، ونشوء ظروف لا تجبر ابن غزة على البحث عن عمل يرتزق به داخل الخط الأخضر . ومعلوم أن الدولة العبرية تُشيع أنها انسحبت من القطاع وتركته لشأنه منذ العام ،2005 لكن الغزيّين ناكري الجميل قابلوا ذلك باستمرار التحرشات والانتهاكات، في ما هي تفرض حصاراً خانقاً على القطاع .

لقد ألحق العدوان دماراً كبيراً في المنشآت، وأوقع نحو 150 شهيداً وزهاء ألف جريح، وقد اعترفت أطراف غربية على طريقتها بأن الرد الإسرائيلي لم يكن متكافئاً، وذلك في نقد لاستعراض القوة الصهيونية . من المهم إظهار مدى الوحشية الصهيونية، ومدى ما يعانيه الغزيون من هذا الإجرام المتمادي، بينما الحديث عن انتصار غير منقوص وعن هزيمة صريحة مُني بها العدو، من شأنه التغطية أو صرف الأنظار عن أعداد الشهداء والضحايا والجرحى، وحجم الدمار الذي وقع خلال ثمانية أيام فقط . . فالمهزومون قلّما يُلامون!

لقد تحققت مكاسب سياسية بحُسن استثمار التغيرات في المشهد العربي، والاعتراف الواقعي المتزايد بحركة حماس كقوة سياسية .

وفي المحصلة السياسية فقد تحققت وحدة وطنية ميدانية بين فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، ولوحظ على الخصوص استئناف كتائب الأقصى لنشاطها المسلح، ونشأ تفاعل وطني ملحوظ بين أبناء الضفة الغربية وأشقائهم في القطاع، وبدا الانقسام في تلك الأيام المجيدة وكأنه ينحصر في المستويات العليا بين حركتي فتح وحماس، وعادت فتح إلى الظهور في القطاع كقوة سياسية جماهيرية داعية إلى الوحدة ووقف الانقسام، كما في التظاهرة التي قادها القيادي الفتحاوي الغزي نبيل شعث . هذه التطورات الإيجابية هي بمنزلة انتصار على الذات، وبدء تصحيح للمسار على أمل استئناف هذا المسار، والكف عن البحث عن مكاسب فئوية لهذا الفريق أو ذاك . . غير أن الانتصار على العدو مازالت دونه مراحل غير هيّنة، وأشواط كفاحية طويلة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"