عصفور الشعر

01:34 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد عبدالله البريكي
منذ رحيل محمود درويش عام 2008، والشعر العربي يضنيه غياب هذا الشاعر الذي يعد رمزاً خالداً في الذاكرة الإنسانية، وكان من الطبيعي أن يشق درويش الغيم وينسج عذاباته الشعرية في الأفق البعيد، ليصبح واحداً من أبرز شعراء العصر الحديث، وقليل هم الشعراء الذين كانوا يعيشون من الشعر، ودرويش حقق معادلة نزار قباني الذي كان مصدر رزقه الوحيد من عوائد كتبه التي لاتزال تباع على الأرصفة، وبين دكاكين بائعي الكتب وفي معارض الكتاب في كل مكان، حتى يومنا هذا.
درويش كان حالة استثنائية ومثالاً للمفكر العربي الذي يناقش قضاياه بعمق وبعد نظر، ومن خلال هذا الإطار استطاع درويش أن يكتب قصائد احتضنها الجمهور العربي المحدود الثقافة، والمثقف المطلع مثل «سجل أنا عربي» التي تحتفظ بتوهجها الإبداعي وحضورها اللافت في الذاكرة الشعرية، والتي فور نشرها كانت بين أيدي الشباب العربي المتحمس آنذاك للقضية الفلسطينية، والتي نكاد في أيامنا هذه لا نسمع عن اسم فلسطين إلا لماماً في بعض نشرات الأخبار، نظراً لأن قضايا أخرى أصبحت تحتل الصدارة في المشهد الإعلامي، وأصبح الحديث عنها كما قال درويش قبل سنوات «لا أستطيع التحدث عن فلسطين الآن إلا بكثير من الإحباط»، وعلى الرغم من مرور سنوات قليلة على رحيل درويش الذي أسس لشعرية خاصة، فإن عاشق فلسطين الذي هو في حضرة الغياب لايزال عصفور الشعر الذي لا يموت ولا يشيخ ولا يظلله النسيان، فالقارئ العربي دائم الحنين إلى شعر درويش الملتهب وإلى يوميات الحزن العادي، وأحبك أو لا أحبك، وفي مديح الظل العالي، وأرى ما أريد، وجدارية، وحالة حصار، ولا تعتذر عما فعلت، وكزهر اللوز أو أبعد، وأثر الفراشة، في حضرة الغياب، ووداعاً أيها السلام. وجل دواوينه التي غمرت الفضاء العربي من جميع الجهات، وعلى الرغم من وجود شعراء كبار وظفوا موهبتهم الشعرية في خدمة القضية الفلسطينية مثل فدوى طوقان وأخيها إبراهيم، وهارون هاشم رشيد وسميح القاسم ومريد البرغوثي وابنه تميم وغيرهم، فإن محمود درويش كان له حضوره الخاص، وقد لمس ذلك من الحفاوة التي كان يستقبله بها الجمهور العربي في الندوات، إذ إن القاعات كانت تمتلئ عن آخرها، ولا يتوقف التصفيق للشاعر، وهو ما كان يترك في نفسه أثراً كبيراً، وعلى الرغم من أن درويش مر بتحولات شعرية كبرى تفصلها بعض المساحات الزمنية القليلة، فإنه استطاع أن ينتقل من كل مرحلة بسلاسة، إذ كان يفاجئ الجميع بطريقة مغايرة لنمطه الشعري المعتاد في أعماله الجديدة، لأنه شاعر ولد بالتقسيط كما قال عن نفسه، وهو ما ميزه بين الطيور الشعرية المهاجرة، وكلنا يتذكر جيداً كيف ودع درويش عالمنا في عملية قلب مفتوح، هذا القلب توزع ماؤه ورحيقه على أرض فلسطين لتروي عطشها حباً وتحناناً، وقد اختار درويش طبيعة مراسم جنازته التي يقول عنها:
«فيا موت/ انتظرني ريثما أنهي تدابير الجنازة/ في الربيع الهش حيث ولدت/ حيث سأمنع الخطباء من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين/ وعن صمود التين والزيتون في وجه الزمان وجيشه/ سأقول: صُبّوني بحرف النّون/ حيث تعبُّ روحي سورة الرحمن في القرآن/ وامشوا صامتين معي/ على خطوات أجدادي ووقع الناي في أزلي/ ولا تضعوا على قبري البنفسج/ فهو زهر المحبطين/ يذكر الموتى بموت الحب قبل أوانه/ وضعوا على التابوت سبعَ سنابل خضراءَ إن وجدت/ وبعض شقائقِ النعمان إن وجدت».
عاد محمود درويش من الموت الذي أعلن عن أنه هزمه في جداريته، على الرغم من اعترافه بانتصار الموت، لكن الكلمة تبقى، والشعر لا يموت كما قالها درويش: «هزمتك يا موت الفنون جميعها».
[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"