الكرامة كمبدأ هوية سياسي

04:05 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

سقوط النازية في ألمانيا دفع بمبدأ الكرامة إلى الواجهة، كما جعل من الدولة حامية لهذا المبدأ
تشكل المسافة بين المبادئ المجرّدة والواقع إشكالية نظرية وعملية في الوقت نفسه، فالمبادئ نفسها خاضعة للمنظومات القيمية التي تتبناها المجموعات البشرية، والمنظومات القيمية خاضعة لمرجعيات عدة، مثل الدين، والأيديولوجيا، والأعراف، وبالتالي فإنه من الصعوبة بمكان الإقرار بوجود مبادئ عامة حاكمة للمجموعات البشرية، فما بالنا إذاً، حين تختلط المبادئ المجرّدة بعكر السياسة، وبالمصالح التي تغذّي تناقضاتها.
ومن بين جملة المبادئ التي نالت حيّزاً من التنظير في القرن العشرين، مبدأ الكرامة الإنسانية، الذي يعني بشكل مكثّف احترام الإنسان لذاته، واحترام حقوقه، بعيداً عن أي تمييز، ولم يكن التنظير حول مبدأ الكرامة بعيداً عن سياق فكر التنوير، الذي أقرّ بقيمة الإنسان بعيداً عن العقيدة، وجعل الإنسان مركز الحقوق، ونزع أي سلطة ما فوق بشرية على الفرد/ الإنسان، وأسس بالتالي لسياق حقوقي مختلف عما عرفته البشرية سابقاً.
وعرفت البشرية خلال النصف الأول من القرن العشرين حربين عالميتين، أودتا بأرواح عشرات الملايين من البشر، ما عدا المصابين بإعاقات دائمة، وقد تصاعدت في أوروبا خطابات الكراهية والتمييز، مع صعود النازية والفاشية، اللتين مارستا شتى أصناف التعسّف بحق المواطنين، من سجن، وقتل، وإعدام، ونفي، من دون محاكمات عادلة، وأحياناً من خلال محاكمات ميدانية سريعة، تحت شعارات وطنية كبرى، ليست في حقيقتها سوى شعارات زائفة، تحمل في طيّاتها استعلاءً قومياً، أو دينياً.
وإذا كانت الثورة الفرنسية (1789-1799) قد أطلقت شعارات «المساواة، الحرية، الإخاء»، فإن سقوط النازية في ألمانيا قد دفع بمبدأ الكرامة إلى الواجهة، كما جعل من الدولة حامية لهذا المبدأ، وهو ما تضمّنته المادة الأولى من الدستور الألماني «كرامة الإنسان مصونة، ويقع واجب حمايتها واحترامها على كل سلطات الدولة»، وقد جاءت هذه المادة بناءً على سجالات فكرية وسياسية واجتماعية، للتخلّص من آثار الحقبة النازية من جهة، ومن جهة أخرى، البدء بمسار سياسي-إنساني جديد، يضع كرامة الإنسان كقيمة عليا في استلهام التشريعات، والقوانين.
إن إقرار مبدأ الكرامة كمبدأ دستوري، وبصيغة بعض الفقهاء الدستوريين كمبدأ ما فوق دستوري، لا يمكن تغييره، هو مسألة تتعلّق بالدولة الحديثة، أي الدولة الديمقراطية، المستندة إلى الليبرالية، ومنظومة الحريات الفردية، وحق الأفراد والجماعات في العمل في الشأن العام بشكل متساو.
الانتقال من المجرّد العام إلى حقل السياسة هو أمر ضروري بقوة للانتقال بالدولة نفسها لتكون دولة حديثة، وتثبيت مبدأ الكرامة كمبدأ دستوري يؤسس فعلياً للانتقال بالمجتمعات نفسها لتكون مجتمعات قابلة للاعتراف بالآخر المختلف، خصوصاً أن الدول ما قبل الحديثة لا تزال تعاني مشكلات الانقسام المجتمعي، وهو الانقسام الذي يزداد حدّة في حالات التنوّع العرقي، والديني، والمذهبي، والذي يعاد تفعيله واستثماره لغايات سياسية، وعوضاً عن أن يكون هذا التنوّع فرصة للاغتناء المعرفي والثقافي والاجتماعي، فإنه يصبح وقوداً للحروب، وفرصة لتدخلات الخارج الاستعماري، الذي دأب على استثمار قضايا الأقليات بكل أشكالها.
إن معظم دول منطقتنا تعاني الفشل في الانتقال إلى الدولة الحديثة، ومن خلل واضح بين الحقوق والحريات التي تكفلها الدساتير والقوانين، وبين الممارسات الفعلية، والتي أحدثت حالة رهاب لدى المواطن من السلطة السياسية، وجعلته يهرب، أو يتنازل عن حقه في العمل في الشأن العام، ولم يكن مستغرباً أن المطالبة بالكرامة كانت على رأس الشعارات في الاحتجاجات التي شهدتها بعض دول المنطقة خلال العقد الأخير.
الإنسان وكرامته متطابقان في الدولة الحديثة، وكرامة الإنسان بمثابة مبدأ هوية، ووجود، حتى إنه بإمكاننا القول إن تراجع المؤشرات التي تتعيّن بها كرامة الإنسان هي نفسها مؤشرات تراجع الدولة وتخلّفها الحقوقي، والسياسي، والإنساني، وكل شعارات أيديولوجية تحاول النيل من مبدأ الكرامة هي محاولة لاستمرار سلطات سياسية مستبدّة وفاسدة، لا تنظر إلى المواطنين بصفة المواطنة، بل باعتبارهم مجرد موضوع خالٍ من أي معنى مستقل، ولا ذوات خاصّة لهم.
لم يعد نضال الشعوب اليوم مقتصراً على تحقيق استقلالها، أو تحسين أوضاعها المعيشية، بل أصبح نضالاً من أجل الكرامة، ومنع أي تعدٍ عليها، تحت أي مسمى، أو شعار، ورفع الوصاية عن الأفراد والمجتمعات، فمن أهم مبادئ الكرامة هو التعامل مع الأفراد بوصفهم قادرين على تحديد مصالحهم، وليس بوصفهم قصّراً لم يبلغوا سن الرشد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"