فلسفة التنافس

04:04 صباحا
قراءة دقيقتين
صفية الشحي

يشير مفهوم التنافس إذا ما تم تناوله من منظور طبيعي إلى العلاقة التي تحدث بين الكائنات الحية عند انخفاض نسبة وجود مورد معين مثل الغذاء وحينها يمكن تمييز القدرات التنافسية المختلفة التي يمتلكها كل كائن ليستمر في البقاء كالسرعة وشدة التحمل والقدرة على الانتشار وغيرها وبطبيعة الحال تمثل البيئة حاضناً للصراع وطرفاً فيه في آن، إلا أننا هنا نتحدث عن صراع البقاء، حيث كل تغيير هو جزء من مشهدي الحياة والموت اليوميين على هذه البسيطة.
لكن للتنافس منظور آخر بصيغة بشرية بحتة يتعامل مع المشاهد المختلفة بمعياريين أساسيين هما الربح والخسارة، إذ أصبحت العقول واقعة تحت تأثير الخاصية التنافسية من أجل أرصدة بنكية أكبر، أو توسع اقتصادي قادر على احتكار كل الميزات والموارد أو ببساطة نجاح فردي يقاس هو الآخر بالكم المادي والنجومية الاجتماعية، وذلك دون أن نتجاهل حاجة الأفراد والمجتمعات للميزة التنافسية من أجل التطوير في المجالات المختلفة ودعم الأفكار الإبداعية والوصول إلى مصاف العالمية، إلا أننا في غمرة ذلك نسينا حاجتنا الأساسية للتوقف لالتقاط الأنفاس والاستمتاع بهذه الإنجازات، لأننا مشغولون دائماً بما بعد الإنجاز.
يقول برتراند راسل: «ما لم يكن الإنسان قد تعلم ماذا يصنع بالنجاح بعد أن يحصل عليه، فإن إنجازه للنجاح لا بد أن يتركه فريسة للملل»، أو فريسة لأزمة الكم التي سيطرت على معظم المجتمعات البشرية، في كل يوم هناك المزيد من المنتجات والأفكار والكتب والأطعمة والمقاهي والبرامج التدريبية ومطوري التنمية البشرية والمتحدثين والكتاب والإعلاميين ونجوم السينما والأغاني والأحداث الثقافية والسياسية وجرائم القتل وكوارث الطبيعة والقائمة تطول، لكن هناك القليل من المتع الحسية والفكرية والإنسانية الخالصة التي لا ينتظر منها مردود مادي.
إن العالم يعيش في حالة انعزال عن المتع المذكورة بسبب هيمنة المعايير المادية على معظم خياراتنا في الحياة، مثل الوظيفة والمسار الأكاديمي والمقال المكتوب والبرنامج التلفزيوني والكتاب وحتى شريك الحياة في حالات كثيرة، والأمر لا يرتبط بفلسفة الفرد وحده بل والمجتمع كاملاً، حيث يتم إعمال الإرادة العقلية وحدها على حساب الإحساس والفكر، والأمثلة نجدها في ظواهر كثيرة مثل ظاهرة «المؤثرين» الذين ينتشرون بيننا لبيع كل شيء بدءاً من أصغر المنتجات الاستهلاكية وانتهاء بقيم مثل السعادة والإيجابية، أما من يصدق القصة ويدفع لها الكثير من وقته وماله وجهده فهم «المستهلكون» الشباب، والنتيجة إرهاق عصبي وهروب من المواجهة وسعي نحو متعة الحصد السهل، أما مكمن الإشكال فهو لا يقع في تفعيل التنافس وإذكاء جذوته، بل في أن ينسى الفرد في غمرة هذه المعركة أن يمارس الحياة.


[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"