مطلوب ساحات ديمقراطية لحل الصراعات

04:00 صباحا
قراءة 3 دقائق

الساحة التي تجري فيها النزاعات المجتمعية، سواء أكانت سياسية أم غير ذلك، لا تقل أهمية عن أسس ووسائل حل تلك النزاعات، خصوصاً إذا أصبح العنف جزءاً من مشهد ساحة النزاع .

في المجتمعات التي تتمتع بوجود نظام ديمقراطي معقول، ليس فيه الكثير من الهنات والزيف، ارتضت جميع مكوناتها أن تكون قاعات البرلمانات، المنتخبة انتخاباً ديمقراطياً نزيهاً ليكون أعضاؤها معبرين عن مختلف القوى والمصالح المجتمعية، أن تكون هي الساحة الأساسية التي تجري فيها النزاعات، ذلك أنه ومن خلال وظائفها التشريعية والرقابية وقدرتها على المحاسبة تساعد تلك البرلمانات على حل النزاعات بصور متوازنة عادلة وعقلانية تراعي مصالح مختلف مكونات المجتمع .

أما المجتمعات التي تفتقر لوجود ساحات ديمقراطية، يثق الناس بها ويلجأون إليها عند الحاجة، فإن المواطنين مضطرون لاستعمال ساحات أخرى لحل النزاعات، سواء أكانت فيما بين قوى المجتمع أو بين المجتمع وسلطة حكم الدولة . ولعل أبرز ساحة يلجأ إليها المواطنون في هذه الحالة تتمثل في الشوارع والأزقة والساحات العامة، وشتان ما بين منابر البرلمانات أو قاعات اجتماعات القوى المتنازعة الهادئة المحكومة بالأخذ والعطاء والوصول إلى حلول وسط، ومنابر الشوارع الصاخبة القابلة لانتظامها في دوامة العنف، بل وما أكثر وأبعد من العنف .

هل يعني ذلك أن وجود منابر البرلمانات هو ضمان لعدم لجوء المواطنين لمنابر وساحات أخرى؟ الجواب هو بالطبع كلا . ففي كل المجتمعات الديمقراطية يلجأ الناس بين الحين والآخر للشوارع ليتظاهروا وليحتجوا عندما تفشل البرلمانات في حل النزاعات، خصوصاً مابين سلطة الدولة ومواطنيها . ولعل أفضل مثال على ذلك احتجاجات الشوارع المستمرة التي قام بها المواطنون السود الأمريكيون وأنصارهم طوال سنوات لإنهاء الظلم التاريخي الذي لحق بهم، عندما فشلت وجبنت مجالس البرلمانات ومجالس الشيوخ الإمريكية المتعاقبة عن إنهاء ذلك الظلم، حتى اضطر أحد قادة حراكات الاحتجاجات، هو راب براون لأن يعلن: إني أقول إن العنف ضروري، إنه صفة إمريكية . إن العنف في الشوارع وغيرها هو في الواقع صفة كل المجتمعات التي تفتقر إلى وجود الساحة البرلمانية الديمقراطية الحقة، غير المتواطئة مع أصحاب المصالح وسلطات القمع، والمدافعة عن مصالح عموم المواطنين . ومن هنا فإنه كلما اقترب النظام السياسي من الديمقراطية الشاملة العادلة تقلصت في أرجائه ساحات النزاعات غير المنضبطة وغير الملتزمة بالسلمية .

مناسبة هذا الحديث هو الاستمرار في الحاضر، وحتى بعد تفجر ثورات وحراكات الربيع العربي، لتاريخ طويل من استهانة معظم أنظمة الحكم العربية بمبدأ إيجاد ساحات مستقلة موثوق بها من المواطن من أجل حل النزاعات والصراعات في المجتمعات التي تحكمها .

على مستوى الأفراد ومؤسسة العائلة، أوجدت أنظمة الحكم على الأقل ساحة القضاء لحل النزاعات، لكنها كعادتها سعت إلى الهيمنة على هذه الساحة بشتى الطرق وأضعفت استقلاليتها ونزاهتها، وبالتالي ثقة المواطنين بها .

لكن على مستوى نزاعات الجماعات، سواء لأسباب اقتصادية أو عرقية أو مذهبية أو قبلية أو غيرها، فان نظام الحكم حاول دوماً ممارسة إدارة النزاعات والصراعات بدلاً من حلها حلاً عادلاً وجذرياً من خلال إزالة أسباب وجودها . وكانت إدارة أزمات الصراعات تتم بأساليب أمنية باطشة أو بأساليب انتهازية تستغل وتستعمل الصراعات من أجل تثبيت وزيادة مصالح القائمين على أنظمة الحكم . كان مبدأ فرق تسد هو الأشهر من بين تلك الأساليب .

ولأن إدارة النزاعات والصراعات هي الأفضل لمصلحة أنظمة الحكم فكان يهمها ألا توجد ساحة البرلمانات الديمقراطية النزيهة للمساهمة في حل، وليس إدارة، الصراعات . ولذا سعت عبر تاريخ طويل لأن تبقى المؤسسة البرلمانية ناقصة الديمقراطية، ضعيفة الاستقلالية، مملوءة بالفساد والانتهازية . وفي المستوى نفسه سعت أنظمة الحكم إلى منع وجود النقابات، وإذا وجدت على مضض كانت ضعيفة وفاسدة ومسروقة من قبل قيادات نفعية متواطئة مخادعة .

كان الهدف واضحاً: ألا يجد المتنازعون والمتصارعون ملجأ غير ساحة الحكم وقوى الحكم، فيظل المجتمع بكامله مبتلعاً في جوف سلطة الدولة، يتغذى بفتات ماتجود به سلطة الدولة .

إذا كانت أنظمة الحكم في كل بلاد العرب تريد ألا تواجه يومياً ماتفرزه شوارع المدن وأزقة القرى العربية، فعليها أن تتوقف نهائياً عن تعطيل وجود ساحات مجتمعية ديمقراطية عادلة موثوق بها، مثل البرلمانات والنقابات، وأشكال كثيرة من مؤسسات المجتمع المدني .

أما شباب ثورات وحراكات الربيع العربي فلا يحق لأحد أن يلومهم إن ظلوا يجوبون الشوارع طالما أن الساحات الديمقراطية السلمية الهادئة الموثوق بها، المطلوبة من أجل حل النزاعات والصراعات، لم توجد بعد . نكرر، نحن نتكلم عن حل الصراعات وليس إدارتها .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"