ينتقد الصهيونية ويبقى وحيداً

04:32 صباحا
قراءة 4 دقائق

لاقت تصريحات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، التي اعتبر فيها الصهيونية بمنزلة جريمة ضد الإنسانية، ردود فعل منددة ومتوقعة من طرف واشنطن وتل أبيب، واللافت أن الأطراف المعنية العربية والإسلامية اعتصمت حتى السبت الماضي على الأقل بموقف المراقب الصامت، فلم تنتصر لموقف الرجل كما انتصر البيت الأبيض للصهيونية، وكأن تركيا هي الطرف الوحيد والأكبر المتضرر من الصهيونية ونشوء دولتها على أرض فلسطين .

جانب كبير من الصراعات في عالمنا وزماننا، بات يُخاض على جبهة المفاهيم والأفكار وعبر وسائل الإعلام . وهو ما تتنبه له الدوائر الصهيونية وتبادر إليه . ففيما يسود مفهوم مكافحة التمييز والعنصرية في كل مكان، فإن الفكر الصهيوني ارتأى عدم الاندراج في ما هو عام ومشترك، فجعل من المساس باليهودية جريمة قائمة بذاتها، وليست جزءاً من منظومة المساس بالأديان كلها، فنشأت ظاهرة مناوأة اللاسامية، بدلاً من مناوأة التمييز على أساس ديني بعامة . وقد تقدم الفكر الصهيوني بعدئذ خطوة أخرى فساوى بين اليهودية كدين، والصهيونية كحركة أيديولوجية وسياسية، فبات نقد الصهيونية في عُرف هؤلاء نقداً لليهودية، وبالتالي ضرباً من ضروب اللاسامية . . وحتى السامية فقد تم حصرها باليهود، علماً أن ضحايا الصهيونية من الفلسطينيين هم ساميون أيضاً .

على هذا الأساس التلفيقي ثارت ثائرة نتنياهو والحاخامات الأوروبيين ضد تصريحات أردوغان قبل أيام في فيينا أمام مؤتمر تحالف الحضارات الذي ترعاه الأمم المتحدة، ووجدت تركيا نفسها وحيدة حتى تاريخه في الرد على الحملة، باستثناء تصريح لرئيس الحكومة المقالة في غزة إسماعيل هنية . وقد احتلت التصريحات موضعاً متقدماً في جدول زيارة وزير الخارجية الأمريكية جون كيري الى أنقرة يوم الجمعة الماضي . ولنا أن نستذكر زمناً مضى اعتبرت فيه الأغلبية في الأمم المتحدة الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، قبل أن تضغط إدارة جورج بوش الأب لإصدار قرار من الجمعية العامة تم فيه التراجع عن القرار السابق، ما يدلل على أن التلاعب بالعقول مكون أصيل لدى الصهاينة ومن يشايعهم .

لا يجري بالتالي دعم دولة الاحتلال الصهيوني عسكرياً وسياسياً ومالياً فقط، بل كذلك وجنباً إلى جنب على جبهة الأفكار . لقد تم رفع الصهيونية إلى مرتبة دين أو عقيدة دينية . وبينما يتم غض النظر عن المساس بالدينين المسيحي والإسلامي، فإن الصهيونية كعقيدة دينية محظور توجيه النقد لها . إنها موجة تكفير عقائدية مفروضة على مجتمعات علمانية في أوروبا، وعلى مجتمع شبه علماني كالمجتمع الأمريكي، ويراد تعميمها على بقية دول ومجتمعات العالم، فيصبح قيام الحركة الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر ذات المضمون الاستعماري الاستيطاني والاستئصالي بمثابة تابو، بينما الحركات الاستعمارية قديمها وحديثها مسموح بتناولها بالنظر والنقد هنا وهناك، بما في ذلك في دول أوروبية قادت الظاهرة الاستعمارية .

يجهر المرء بذلك مع إبداء موقف نقدي رافض لرؤى سلفية بين ظهرانينا يجمع أصحابها بين اليهودية والصهيونية، ويصورون الصراع السياسي والوطني والقومي على أنه صراع ديني . ومن دواعي الاستغراب حقاً أن يعبر مسؤولون أمريكيون عن الموقف السلفي نفسه بمضاهاة اليهودية كدين توحيدي، بصهيونية هرتزل وجابوتنسكي .

مع ذلك فما يستحق التوقف عنده بعدئذ أن تصريح أردوغان تم اجتزاؤه ، وجرى توجيه النقد العنيف ضد الجزء المُجتزأ المتعلق بالصهيونية، أما الجزء الآخر وهو بقية التصريح الذي اعتبر فيه أن معاداة الإسلام (فوبيا الإسلام والمسلمين) هي جريمة ضد الإنسانية، فلم يستوقف البيت الأبيض ولا أمين عام الأمم المتحدة، ولم يستحق أي تنويه أو تعليق . علماً أن فوبيا الإسلام والمسلمين هي ظاهرة شائعة وملموسة على مستويات سياسية وإعلامية واجتماعية وتسمم العلاقات بين البشر على امتداد القارات الست، وليست مسألة معزولة متعلقة بموقف أكاديمي هنا أو مفكر هناك أو محطة تلفزيونية هنالك .

وإذ يسوق المرء هذه الملاحظة، فمن الواجب استكمالها بالإشارة إلى أن أصحاب الشأن أنفسهم من قادة مجتمعات، ومؤسسات إسلامية على امتداد العالم قد تراخوا بدورهم، بل تراخوا أولاً وتجاهلوا مضمون تصريح أردوغان من على منبر دولي للأمم المتحدة والردود العنيفة عليه، وهو أمرٌ بالغ الغرابة، وكأن الدفاع عن الإسلام والمسلمين ينبغي أن يتوقف وتطوى رايته، إذا ما اقترن بنقد الحركة الصهيونية، كما فعل المسؤول التركي الرفيع .

يتمنى المرء أن تظهر مواقف عربية وإسلامية ومسيحية، تميز بين اليهودية كدين سماوي، وبين الصهيونية كعقيدة أنتجها بشر وأدت لاقتلاع شعب من أرضه، وأنه محظور المساس بالبشر بسبب اعتقاداتهم الدينية، أما العقائد والأيديولوجيات البشرية فتظل عرضة للأخذ والرد، بينما المتعلقة منها بغزو استيطاني واجبة النقد والرفض كما فعل أردوغان في تناوله للحركة الصهيونية، ذلك أن اقتلاع شعب من أرضه وتدمير وجوده الوطني ومنع مشرديه من العودة إلى ديارهم هو بحق وبالتعريف جريمة كبرى ضد الإنسانية، ولعل الفلسطينيين هم الشعب الوحيد الذي تم منع مشرديه ولاجئيه من العودة إلى موطنهم، خلافاً لبقية مشردي ولاجئي الصراعات في عالمنا .

ومع هذا فالوزير الأمريكي الجديد جون كيري اعتبر تصريح أردوغان من شأنه تعقيد الجهود الرامية لإحلال سلام في الشرق الأوسط، أما مباركة الاحتلال والتواطؤ معه ودعمه فهي تُسهل كما يبدو السلام المفترى عليه، واستشراء الاستيطان في الأرض المحتلة ومحنة اللجوء الفلسطيني المديدة في الشتات شاهدان على صحة تصريح رئيس الدبلوماسية الأمريكية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"