اعتراضات عنيفة على الرأسمالية

01:20 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. لويس حبيقة*
في دولة متطورة كفرنسا، يعتبر آخر السنة وقتاً مهماً للأعمال؛ حيث يعول القطاع الخاص كثيراً على الأسابيع القليلة المتبقية من 2018 لتحقيق الأرباح، أو ربما للتعويض عن بعض التباطؤ الاقتصادي الحاصل خلال السنة.

ما يجري في فرنسا منذ مدة مقلق؛ إذ لا تكمن المشكلة في محتوى الاعتراضات على الرأسمالية ونتائجها، وإنما في طرق التعبير العنيفة. في دولة تسمح للمواطن بالتعبير بحرية عن أفكاره في الإعلام والسياسة والاقتراع، من المدهش أن يتم التعبير بهذا العنف الغاضب، ليس فقط تجاه الأملاك العامة وإنما تجاه «عرق الجبين»؛ أي الأملاك الخاصة من سيارات ومحال وغيرها.
من قال لهم إن أصحاب السيارات والمحال هم من الأغنياء؛ إذ يمكن أن يكونوا عاديين، بل مقترضين من المصارف، وبالتالي دمرت أوضاعهم المعيشية. في دولة يبلغ دخلها الفردي حوالي 40 ألف دولار سنوياً؛ أي من الأعلى عالمياً، نجد هذا العدد من الغاضبين المحتجين أو الرافضين لكل شيء.
هل الرفض هو للنتائج الاقتصادية أم للنظام الديمقراطي البرلماني؟ هل يريدون قلب النظام، أم تحقيق الإصلاحات المنطقية لتحسين الأوضاع الاقتصادية؟ هل يريدون نقل الدولة من الديمقراطية إلى الديكتاتورية اليمينية أو اليسارية؟
ماذا نقول إذن عن أوضاعنا الاقتصادية في أكثرية الدول النامية والناشئة. في مجتمعات لا تمتلك المقومات القانونية والإدارية والعملية لتحقيق الإصلاحات والتطوير؟ أخطأ ماكرون عندما قال إنه من غير المقبول للفرنسي أن يحتج؛ لأن أوضاعه أفضل بكثير من غيره؛ إذ إن هذا الحق مقدس وليس للرئيس أن يوقفه، لكن في الوقت نفسه: هل البدائل التي يريدها هؤلاء «الثوار» ستكون أفضل في النوعية والكمية؟ على كل حال، حرية التعبير مقدسة في الدساتير والأديان والأعراف والممارسات، ومن الضروري الحفاظ عليها في كل الظروف. في دولة متطورة كفرنسا، يعتبر آخر السنة مهماً للأعمال؛ حيث يعول القطاع الخاص كثيراً على الأسابيع القليلة المتبقية من 2018 لتحقيق الأرباح، أو ربما للتعويض عن بعض التباطؤ الاقتصادي الحاصل خلال السنة.
وتجري الانتخابات في فرنسا بشكل متواصل على مختلف المستويات المدنية والقروية والمحلية، كما العامة، وبالتالي يمكن للغاضبين أن يغيروا الكثير بهدوء في صندوق الاقتراع. ما هي الحجة الأساسية للتحرك؟ رفض الضريبة على المحروقات التي تهدف إلى دفع المواطنين والشركات نحو استهلاك الطاقات غير الملوثة. هذه فكرة جيدة، لكن إذا وجدت معارضة لها فهل تستأهل كل هذا العنف؟ هل تؤخذ هذه الضريبة كحجة لضرب الاقتصاد وربما السلم الأهلي من قبل المتطرفين يميناً ويساراً؟ هل ضرب الاقتصاد كما يحصل يسهم في تحسين أوضاع الطبقات غير الميسورة؟ نسمع من يقول إنه غير قادر على تأمين رزقه في فرنسا وأن ما يجنيه لا يكفي، وبالتالي يثور على كل شيء. فالثورة الهادئة ممتازة، ومن الضروري من وقت لآخر توعية المسؤولين الغارقين في جنة السلطة على مشاكل المواطن العادي، لكن المشكلة تكمن مجدداً في الكسر والعنف والضرب وإلحاق الضرر بالأبرياء في المطاعم والمحال والمتاجر.
لا شك أن هنالك أوضاعاً عالمية صعبة اقترعت للبريكست وأتت بدونالد ترامب رئيساً، وها هي تنتج أضراراً في فرنسا لم يكن أحد يتوقعها.
هنالك أجواء عالمية اليوم يمكن أن تأتي بالتغيير، لكن ليس بالضرورة التغيير المناسب أو الصحيح، كأن يفوز مثلاً: برني ساندرز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، وأن يصبح جيريمي كوربين، رئيس وزرا بريطانيا قريباً، إذا ما جرت انتخابات مبكرة نتيجة رفض مسودة الاتفاق مع الوحدة الأوروبية بشأن البريكست.
التغيير ضروري ومقبول طالما أن الموطن اقترع له، حتى لو لم تكن النتيجة مناسبة أو مفضلة. يسري هذا الشيء أيضاً على الانتخابات البرازيلية والمكسيكية وغيرها بنتائجها المتنوعة.
سوء توزع الدخل ليس فقط في فرنسا وإنما عالمياً. أتهم ماكرون على أنه رئيس الأغنياء، فهل كان فعلاً هذا الرئيس سيئاً. الآراء في فرنسا تختلف كثيراً حوله، والانتخابات القادمة كان من الممكن أن تعبر عن الاستياء. لا شيء يؤكد أنه سيخسر الانتخابات المقبلة؛ إذ إن عدد المتظاهرين قليل، وبالتالي ليس من المؤكد أن الأكثرية ضده اليوم إذا حصلت الانتخابات. على كل حال، لا بد له من أن يعيد حساباته، وأن يتواصل مع المعترضين لتطبيق المقترحات المعقولة والمنطقية.
أخطر ما يظهر اليوم أن الأجيال الجديدة غير متحمسة للنظام الاقتصادي الحر، كما في السابق. في استفتاء أُجري مؤخراً في الولايات المتحدة؛ معقل الفكر الرأسمالي، تبيّن أن أكثر من نصف عنصر الشباب لم يعد يؤيد الرأسمالية، مما سينعكس حكماً على كل دول العالم.
هل يمكن بعد إنقاذ النظام الاقتصادي الحر؟ هنالك خطوات منها:
أولاً: لا بد من العودة إلى أساس النظام الحر، وهو المنافسة التي غابت بفضل الاحتكارات وسيطرة عدد قليل من الشركات على الاقتصاد العالمي. تحقق هذه الشركات أرباحاً ضخمة لا تبررها الأعمال، مما يسمح لها بالقضاء على المنافسة وتوسيع السيطرة. هذا غير مقبول ويتطلب تنفيذ إجراءات وقوانين تعزز أوضاع الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتحمي الفقراء.
ثانياً: يجب وضع الأطر المناسبة لتشجيع الإبداع والابتكار، فحماية المبدعين مهمة شرط ألاَّ تقتل الإبداع، وبالتالي يجب إيجاد الحل الوسط الذي يحمي الفائز ولا يلغي المنافسة.
ثالثاً: هنالك دور كبير للحكومات في تحفيز المنافسة عبر تسهيل تمويل الاستثمارات الصغيرة، ومساعدة المخترعين على تسجيل براءات الاختراع وتسويق المنتج. ما نشهده في الدول النامية، هو أن من يستفيد من الدعم والمساعدة العامة، هو الميسور وهذه هي قمة الفساد.
البديل عن الرأسمالية ليس الأنظمة المتطرفة يميناً أو شمالاً؛ إنما نظام اقتصادي حر يرتكز كما أراده مؤسسه آدم سميث على المبادئ الإنسانية والأخلاقية التي لا غنى عنها.
* أكاديمي لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"