خصائص التفسخ الاقتصادي

03:44 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة

في‮ ‬سنة‮ ‬1989‮ ‬أعلن الكاتب المعروف‮ «‬فرانسيس فوكوياما‮» ‬أن الرأسمالية الغربية انتصرت وأن الديمقراطية الليبيرالية ستعم العالم‮.‬ هل تسرع فوكوياما في‮ ‬تنبؤاته، أم أن الشعور بالنصر هو الذي‮ ‬دفع الكاتب إلى حسم صراع الحرب الباردة بشكل نهائي‮ ‬وواضح؟‮ ‬هل كان قلب الكاتب أقوى من عقله؟ بعد‮ ‬26‮ ‬سنة من نهاية الصراع بين الشرق والغرب،‮ ‬هل تحققت نبوءة فوكوياما، أم أن العكس حصل ولماذا؟

في‮ ‬الواقع، عرف الاقتصاد الغربي‮ ‬أزمات كبرى منذ سنة‮ ‬1989‮ ‬أهمها أزمتي‮ ‬1997‮ا ‬و‮. ‬2008‬الأزمة الثانية كانت أكبر وأعمق وضربت كبرى الاقتصادات العالمية،‮ ‬وفي‮ ‬مقدمها الولايات المتحدة‮.‬‮ ‬الاقتصاد الغربي‮ ‬يتعثر بينما‮ ‬يتحقق النمو القوي‮ ‬في‮ ‬معظم الدول النامية والناشئة‮.‬ تنمو الصين بنسب سنوية توازي‮ ‬4‮ ‬مرات النسب الغربية،‮ ‬كما تنمو الهند بنسب سنوية تعادل‮ ‬3‮ ‬مرات المعدل الغربي‮.‬ ما‮ ‬يحصل في‮ ‬الغرب هو‮ ‬عمليات قيصرية لتخفيف الديون على كل المستويات، أي‮ ‬الفردي‮ ‬والعائلي‮ ‬كما في‮ ‬الشركات والمؤسسات وعلى الصعيد العام‮.‬ وحصلت عمليات تقشف كبيرة على جميع هذه المستويات ما فرض على المصارف المركزية التدخل عبر الضخ النقدي‮ ‬لتجنب حصول الانكماش ‮ ‬Deflation. تجنب الانكماش لا‮ ‬يكفي،‮ ‬بل‮ ‬يجب العودة إلى النمو لتخفيف البطالة‮.‬

‮ ‬ في‮ ‬الواقع،‮ ‬ارتفعت البطالة إلى مستويات مقلقة في‮ ‬أمريكا وأوروبا ما فرض على الحكومات توسيع الضمانات الاجتماعية للعاطلين عن العمل كي‮ ‬يستمروا في‮ ‬الحياة الطبيعية‮.‬ في‮ ‬الولايات المتحدة ارتفعت نسبة المستفيدين من إعانات الإعاقة من‮٪ ‬3‮ ‬في‮ ‬سنة‮ ‬1990‮ ‬إلى‮ ‬٪6‮ ‬اليوم‮.‬ إن مواطنين سليمين عاديين‮ ‬يتحججون بالإعاقة ليستفيدوا من مساعدات أكثر كرماً‮.‬ ولا شك‮ في «‬أن الحاجة تبقى أم الاختراع‮». و‬تعاني‮ ‬الولايات المتحدة من توسع فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء،‮ ‬كما أن قدرة التنقل اجتماعياً أصبحت أصعب في‮ ‬بلد كان‮ ‬يعرف ببلد الفرص الكبيرة‮.‬ حصة ال‮ ‬1٪‮ ‬الأغنى من الدخل الوطني‮ ‬الأمريكي‮ ‬بلغت‮٪ ‬9‮ ‬في‮ ‬سنة‮ ‬1970‮ ‬ووصلت إلى‮٪ ‬24‮ ‬في‮ ‬سنة‮ ‬2007‮ ‬قبل الأزمة،‮ ‬وهي‮ من ‬دون شك أعلى اليوم‮.‬ لماذا توسعت الفجوة؟‮ ‬الأسباب عدة منها التعليم والعولمة والسياسات المالية العادية التي‮ ‬اتبعت على مدى عقود من الزمن‮. ‬أزمة‮ ‬2008‮ ‬لم تكن، إذاً، مالية فقط،‮ ‬بل ‬اقتصادية واجتماعية أيضاً، ما‮ ‬يفسر عمقها واستمرارها‮.‬ حال أمريكا‮ ‬يشبه حال الدول الغربية الأخرى التي‮ ‬تدفع المواطنين العاديين إلى التصويت في‮ ‬العديد من الأحيان إلى أحزاب اليمين المتطرف كما إلى الشعور بالعداء نحو المهاجرين والأقليات العرقية والمذهبية والدينية وغيرها‮.‬

في‮ ‬كتابه‮ «‬ثروات الأمم‮» ‬الصادر في‮ ‬سنة ‮ ‬1776،‮ ‬وصف مؤسس علم الاقتصاد‮ «‬أدام سميث‮» «‬الاقتصاد الراكد‮» ‬بالاقتصاد الغني‮ ‬الذي‮ ‬توقف عن النمو‮. ‬كان‮ ‬يتكلم عن الصين في‮ ‬ذلك الوقت،‮ ‬لكن‮ ‬يمكن اقتباس وصفه تماماً‮ ‬بالنسبة إلى الاقتصادات الغربية اليوم‮.‬لماذا توقفت الصين عن النمو في‮ ‬رأي‮ ‬سميث؟‮ ‬وجود مؤسسات‮ ‬غير منتجة وقوانين مهترئة بما فيها إدارة عامة فاسدة،‮ ‬كما بسبب ضعف التجارة الدولية وعدم تشجيع الشركات الصغيرة والمتوسطة ووجود مافيات اقتصادية تستغل الثروات الوطنية وتضر بمصالح الفقراء والطبقات الوسطى‮. ‬سقط النمو الصيني‮ ‬في‮ ‬ذلك الوقت لهذه الأسباب مجتمعة‮. ‬هل‮ ‬ينطبق وصف سميث على الدول الغربية اليوم، أي‮ ‬اقتصادات راكدة تعاني‮ مشكلات شبيهة إلى حد ما بالداء الصيني‮ ‬الماضي؟ اليوم الصين تنمو بنسب عالية لأنها عالجت معظم أوضاعها، والاقتصاد الغربي‮ ‬يتعثر‮.‬ هنالك تفسخ اقتصادي‮ ‬كبير في‮ ‬الاقتصادات الغربية لا‮ ‬يمكن معالجته بالطرق الكلاسيكية،‮ ‬بل‮ ‬تجب إعادة النظر في السياسات التي‮ ‬وسعت الفجوة،‮ ‬كما في العديد من القوانين والمؤسسات العامة التي‮ ‬تخدم أصحاب الثروة والنفوذ وتقف في‮ ‬وجه الفقراء والطبقات الوسطى شراكات ‬وأفراداً‮.‬

على‮ ‬كل حال، ارتفعت الديون العامة في‮ ‬الغرب بشكل كبير في‮ ‬العقود الماضية وحتى سنة ‮ ‬2008‭‬هنالك خلل في‮ ‬العلاقة بين الأجيال،‮ ‬إذ من‮ ‬غير المقبول أن تحمل الأجيال الحالية الأجيال المستقبلية مهمة، بل مسؤولية تسديد ديونها الناتجة عن سوء الأداء والهدر والإنفاق‮ ‬غير المجدي‮.‬ هنالك خلل في‮ ‬العلاقة الأخلاقية بين أجيال اليوم والمستقبل لم تكن موجودة في‮ ‬التاريخ أو أقله بهذه الدرجة‮. ‬تجد الدول الغربية نفسها اليوم أمام مأزق كبير لا‮ ‬يمكن معالجته،‮ ‬كما قال‮ «‬نيال فيرغيسون‮» ‬في‮ ‬كتابه‮ «‬الانحلال الكبير‮»‬،‮ ‬إلا عبر سياسات ثلاث جميعها مكلفة وصعبة‮:‬

أولاً‮: ‬محاولة رفع نسب النمو كي‮ ‬تصبح أعلى من فائدة الاقتراض،‮ ‬وبالتالي‮ ‬تحسن الدولة وضعها من ناحية القدرة على تسديد الديون‮.‬ وكي‮ ‬ترتفع نسب النمو،‮ ‬لا بد من زيادة الإنفاق العام بحيث تتحرك الاستثمارات العامة،‮ ‬كما الاستهلاك العام‮.‬ وتكمن المشكلة هنا ليس في‮ ‬رفع قيمة الإنفاق،‮ ‬وإنما في‮ ‬نوعية الانفاق المتزامن مع الهدر، إضافة إلى تفشي‮ ‬الفساد على مستويات عدة‮.‬ واختيار تفاصيل ومحتوى الإنفاق لم‮ ‬يكن جيداً،‮ ‬بل خضع لأهواء السياسيين الذين وجهوه إلى ما‮ ‬يخدم مصالحهم السياسية والانتخابية‮.‬

ثانياً‮: ‬الإفلاس الجزئي‮، ‬أي‮ ‬عدم تسديد قسم من الديون بالتعاون مع المقرضين أو‮ ‬غصباً عنهم‮. ‬ولا ننسى أن المصارف الخاصة التي‮ ‬أقرضت اليونان على مدى سنوات أعفتها من قسم مهم كي‮ ‬تحصل على القسم الباقي‮.‬ الخيار بالنسبة للمصارف كان بين الحصول على جزء من القروض أو لا شيء،‮ ‬فكان الخيار الذكي‮ ‬المناسب‮.‬

ثالثاً‮: ‬الحل النقدي‮ ‬الذي‮ ‬اتبعته دول عدة في‮ ‬الماضي،‮ ‬من بينها أوروبية، وهو تخفيض سعر صرف النقد الوطني،‮ ‬وبالتالي‮ ‬تخفيض ثقل الديون الموقعة بالعملة الوطنية‮. ‬يؤدي‮ إلى التضخم والغضب الشعبي‮ ‬خاصة من قبل أصحاب الأجر الذين‮ ‬يقبضون رواتبهم بالنقد الوطني‮.‬ هذا حل قسري‮ ‬اتبع في‮ ‬الماضي‮ ‬لكنه‮ ‬يزعزع الثقة بالدولة ويجعل من إمكانية اقتراضها من جديد عملاً‮ ‬مستحيلاً‮.‬ ولم تستطع الدول الأوروبية استعمال هذا السلاح حالياً‮ ‬بسبب وجود النقد المشترك أي‮ ‬اليورو الذي‮ ‬حمى إلى حد بعيد الطبقات الوسطى وما دون‮.‬

هنالك دولة مهمة كانت آمالها كبيرة لكنها تتعثر اليوم للأسباب المذكورة أعلاه‮.‬ بلغ‮ ‬النمو الروسي‮ ‬مستويات مرتفعة لدولة في‮ ‬حجمها أي ‮٪ ‬4‭.‬5‮ ‬في‮ ‬سنة ‮ ‬2010،‮٪ ‬4‭.‬3‮ ‬ في‮ ‬سنة‮ ‬2011 ‮ ‬وبدأ الانحدار تدريجياً‮. ‬الأسباب واضحة ولا تعالج حتى اليوم،‮ ‬وتتلخص أولاً:‮ ‬بسوء تنوع الاقتصاد الذي‮ ‬ما زال معتمداً‮ ‬على المواد الأولية، خاصة النفط،‮ ‬ثانياً‮: ‬بضعف المنافسة نتيجة وجود قوى كبرى تسيطر على الأسواق،‮ ‬كما ثالثاً‮ ‬بضعف الاستثمارات النوعية في‮ ‬البنية التحتية، كما رابعاً‮ ‬بضعف الاستثمارات في‮ ‬القطاعات الاقتصادية الأساسية‮.‬ وعندما ترتفع أسعار المواد الأولية،‮ ‬تتحسن أوضاع الدولة ويبدأ الهدر وعندما تنخفض،‮ ‬كما‮ ‬يحصل اليوم،‮ ‬يبدأ التعثر ويختل النمو‮.‬ النظام المصرفي‮ ‬ضعيف والنقد‮ ‬يتقلب كثيراً،‮ ‬وبالتالي‮ ‬لم تبن الإدارات الروسية المتتابعة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي‮ ‬دولة عصرية قوية ومتنوعة‮.‬ تحتاج روسيا ليس إلى اقتصاد حديث فقط، بل إلى طرق حكم أحدث وأذكى وأفعل بحيث تخف قدرة المافيات على التحكم في مصالح الشعب‮.‬ الجيوش الكبيرة لا تبني‮ ‬وحدها دولاً‮ ‬قوية،‮ ‬ولا بد للوعي‮ أن‮ ‬يحصل حتى تتحسن أوضاع الشعوب‮.‬

يقول الاقتصادي‮ «‬دوغلاس نورث‮»، ‬حامل جائزة نوبل، إن عدم قدرة بعض المجتمعات على وضع قوانين عصرية ومؤسسات فاعلة تؤمن تنفيذ واحترام هذه القوانين هي‮ ‬من أهم أسباب الركود الاجتماعي‮ ‬والانحدار الاقتصادي‮ ‬الحديث‮.‬ روسيا لم تستفد من التجارب الغربية وترفض اعتماد الطرق الحديثة للنهوض‮.‬ لذا فإن الحلول واضحة للجميع لتجنب الانحدار، وهي‮ ‬التحديث القانوني‮ ‬والفاعلية في‮ ‬التنفيذ، كما احترام العقود بين الدولة والمواطن، وفيما بين المواطنين‮.‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"