الدول بين العجز المالي وخطط الانعاش

02:22 صباحا
قراءة 4 دقائق

اختلفت الدول المشاركة في قمة مجموعة العشرين في كندا بشأن ما إذا كان النمو الاقتصادي العالمي أم ضبط الدفاتر هو الأهم في المرحلة الحالية من التعافي الهش من أسوأ ركود شهده العالم في أكثر من نصف قرن .

وذهبت الدول الأوروبية المشاركة في القمة إلى كندا بعدما بدأت بالفعل إجراءات تقشفية تستهدف خفض العجز في الميزانية، لكن دولا أخرى لا تزال تحافظ على خطط الانعاش الاقتصادي التي تتضمن زيادة الانفاق العام وخفض الضرائب لدعم النمو .

وأهمية مجموعة العشرين أنها تمثل حوالي ثلثي سكان العالم، وتضم الاقتصادات المتقدمة تقليدياً (الممثلة في مجموعة الثماني) والاقتصادات الصاعدة من العالم النامي والتي شكل النمو فيها في العامين الأخيرين صمام الأمان للحيلولة دون دخول الاقتصاد العالمي في كساد عميق . ومن بين دول الاقتصادات المتقدمة، حذرت الولايات المتحدة التي تملك أكبر اقتصاد في العالم من إجراءات خفض الانفاق والتقشف قبل أن يصبح التعافي قادراً على الاستدامة .

ووقفت أمريكا في المنتصف بين الدول الأوروبية التي بدأت بالفعل في خفض الرواتب ومعاشات التقاعد وزيادة الضرائب والرسوم لسد العجز في الميزانية، وبين الدول الصاعدة من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية .

والواقع أن الجدل حول توقيت التخلي عن خطط تحفيز الاقتصادات الرئيسية في العالم لم يتوقف منذ بدأت أغلب الاقتصادات في الخروج من الركود نهاية العام الماضي . وبدأت بعض الدول الرئيسية تفكر في إلغاء الإعفاءات الضريبية المؤقتة والتسهيلات التي قدمتها للإقراض بين البنوك وضخ الأموال في الاقتصاد عبر ميزانيات إنفاق عام طارئة . وفي البداية كانت التحذيرات قوية من أن التعافي الاقتصادي العالمي ضعيف وهش ولا يتحمل توقف دعمه حكومياً خشية عودة الركود بل واحتمال الكساد .

إلا أن انفجار أزمة الديون الحكومية في اليونان مطلع العام، والتوقعات السلبية باحتمال انتشارها في عدد من دول منطقة اليورو مثل البرتغال وإيرلندا واسبانيا، دفعت اقتصادات اليورو الرئيسية مثل ألمانيا وفرنسا إلى التعجيل بخطط التقشف للحد من عجز الميزانية تفادياً لمشكلة ديون تهوي باليورو وتشل القطاع المالي الأوروبي . ثم جاءت حكومة محافظين في بريطانيا بخطط جديدة مدفوعة ايديولوجيا في الأغلب تستهدف تقليص الانفاق العام وزيادة الضرائب، رغم أن بريطانيا ليست عضواً في العملة الأوروبية الموحدة .

وهنا عاد بقوة الجدل حول الجدوى الاقتصادية لخطط التقشف في ظل تعاف هش وسط مخاوف من عودة الركود بسرعة مجدداً . وكانت تلك القضية الأبرز على قمة الاقتصادات الرئيسية في كندا دون التوصل إلى اتفاق عام في الواقع رغم البيانات التي تبدو إيجابية . فالدول التي تسعى لخفض عجز الميزانية لتفادي أزمة تخلف عن سداد الديون لديها حجة قوية، لكن في الوقت نفسه تخشى بقية دول العالم من تأثير ذلك في التعافي واحتمال الركود الذي سيجر الاقتصاد العالمي كله ربما إلى كساد عميق لا يمكن معالجته كما حدث مع الأزمة التي تفجرت قبل ثلاث سنوات .

ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى تحذيرات دول مثل الأرجنتين والبرازيل لدول أوروبا بأن مسارعتها بحل مشكلة عجز الميزانية ستضر أكثر باقتصادها وبالاقتصاد العالمي ككل . وقد سبق لتلك الدول أن جربت الوصفة ذاتها قبل عشر سنوات وكانت نتائجها كارثية، لكنها ظلت محدودة وقتها وسط التوسع الهائل في الاقتصاد العالمي . أما الآن فالاقتصاد العالمي كله هش ولم يخرج بعد من العناية المركزة رغم علامات التحسن في الربعين الأخيرين، ومن ثم لا يتحمل أنانية بعض الدول في إنفاذ سياسات اقتصادية تضر ببقية العالم الذي ترتبط به شاءت أم أبت .

والمثال الأبرز الذي لا يريد الأوروبيون الالتفات إليه هو الأرجنتين مطلع القرن عندما دخل اقتصادها في ركود فسارعت بإجراءات تقشفية خشية تفاقم مشكلة عجز الميزانية فقلصت الانفاق وزادت الضرائب وخفضت الأجور . وكانت النتيجة أن تراجع النمو الاقتصادي بشدة وقلت عائدات الدولة ووصلت إلى تخلف تام عن سداد الديون وشبه إفلاس . وهذا تحديداً ما يواجه بريطانيا أكثر من غيرها لو استمر المحافظون في تعزيز سياساتهم التقليدية بمزيد من الضرائب مع ما يصاحبها من ارتفاع التضخم والبطالة وأسعار الفائدة . لكن تبقى تلك مشكلة بريطانيا لولا أن الوضع الاقتصادي العالمي ككل في مرحلة حرجة جداً وقابل للتأثر السريع وبشدة بأي خلل في اقتصاد كبير .

وجدير بالذكر هنا الإشارة أيضاً إلى أن الاقتصادات التي تمكنت من تجاوز الأزمة الأخيرة أفضل من غيرها هي تلك التي زادت الإنفاق العام ولم تلجأ لسياسات صارمة تضر بالنمو، وفي المقدمة منها دول الخليج مثل السعودية والإمارات وكذلك الصين وغيرها .

وإذا ترك الأمر لسياسات أحادية من جانب دول تراهن على أن ترفعها اقتصادات صاعدة وتمعن في إجراءات ضارة على المدى الطويل فالتوقعات كئيبة جداً للجميع . وذلك هو العجز العالمي الحقيقي، وليس عجز الميزانيات الذي يمكن تحمله في ظل نمو اقتصادي جيد، أي عن المشاركة العادلة في تحمل أعباء أزمة عالمية بدأت أساساً في أمريكا وبريطانيا وتريدان لبقية العالم أن يدفع ثمنها وحتى كلفة علاجهما منها .

* خبير اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"