ظاهرة «دويتشه بنك»

01:59 صباحا
قراءة 4 دقائق
أيمن علي

سيطر الرعب والعصبية على الأسواق العالمية في الأسبوعين الأخيرين من سبتمبر/أيلول مع احتمال انهيار أكبر البنوك الألمانية وأحد أكبر البنوك في العالم، «دويتشه بنك»، تحت وطأة غرامات أمريكية تصل إلى 14 مليار دولار. وانتشرت الشائعات والتكهنات والنفي الرسمي الحكومي الألماني لوجود أي خطط لإنقاذ البنك. ومع ما بدا من تردد حكومي في دعم البنك، وعدم مسارعة البنك المركزي الأوروبي لإعلان استعداده لإنقاذ البنك في حال انهياره، لم يكن أمام إدارة «دويتشه بنك» غير السعي لتفاوض حول الغرامة الأمريكية لاحتمال تخفيضها إلى أقل من النصف وهو ما ساعد البنك على استعادة بعض العافية في الأسواق لكن مشاكله لم تنته.
وحين بدأت اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في واشنطن نهاية الأسبوع الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري كان الموضوع الرئيسي في النقاشات العامة والجانبية هو «أزمة دويتشه بنك» ربما أكثر من تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني وأسعار النفط وتأثير مشاكل الديون على الاقتصاد العالمي. صحيح أن الأزمة الحادة التي كادت تعصف بالنظام المصرفي كله تراجعت إلى حد ما، لكنها لم تنته. وما زال شبح انهيار بنك «ليمان براذرز» الاستثماري في 15 سبتمبر/ أيلول 2008 الذي مثل قمة انفجار الأزمة المالية العالمية وقتها ماثلاً في الأذهان.

ولعل المتابع الدقيق يلحظ سيناريو الأحداث المماثل لما حدث قبل انهيار «ليمان براذرز» حتى تصريحات الرئيس التنفيذي ل«دويتشه»، البريطاني جون كرايان، تكاد تكون بالنص تصريحات رئيس «ليمان» قبل الانهيار الشهير. فالبنك الألماني يكرر أن وضعه جيد، وليس لديه مشكلة سيولة ورأسمال وأن مخاوف الأسواق مبالغ فيها. والحقيقة أن تلك التصريحات في الأسابيع الأخيرة لم تزد الأسواق إلا رعباً، ولم يهدأ العالم إلا مع تسريب التفاوض بشأن خفض الغرامات الأمريكية إلى أقل من النصف. لكن ذلك يبدو مشكوكاً فيه الآن، وللمفارقة فإن الغرامات والجزاءات الأمريكية على البنك الألماني سببها مخالفات بيع «مشتقات» استثمارية وكان التوسع في تلك المشتقات (وهي سندات مرهونة بديون تسهم في تضخيم فقاعة الدين) السبب الرئيسي في انهيار قطاع القروض العقارية الأمريكية والذي انتقل إلى أوروبا وبقية العالم في أزمة 2007/2008 التي لم تنته آثارها السلبية حتى الآن.

وتعافت أسهم «دويتشه بنك»، التي فقدت نحو نصف قيمتها منذ بداية العام، ليرتفع سعر السهم فوق 10 يورو بعدما هبط إلى ما دون هذا الحاجز. ويرجع التعافي لإقبال المستثمرين الذين يراهنون على الأسهم المنهارة أن تعاود الارتفاع، خاصة مع أنباء التفاوض لخفض الغرامات وتزامن ذلك مع إشاعة في السوق بأن أكبر مستثمر في البنك سيضاعف نصيبه فيه. وسرت الإشاعة بأن قطر، التي تملك 10 في المئة في «دويتشه بنك»، سترفع حصتها فيه إلى 25 في المئة لكن الدوحة نفت ذلك بعد عملية شراء كبيرة لأسهم البنك رفعت سعر السهم وقتها فوق 12 يورو.

ورغم تلك التصريحات والإشاعات، إلا أن ما حدث بنهاية سبتمبر كشف أن ظاهرة «دويتشه بنك» ليست معزولة عن وضع القطاع المصرفي الألماني وقطاع المصارف الأوروبي والعالمي. خاصة وأن ثاني أكبر البنوك الألمانية «كومرز بنك» يعاني أيضا منذ مطلع العام. ومشكلة المصارف الألمانية الكبيرة أنها موزعة الأصول التي يصعب تقييمها، فمن بين أصول «دويتشه» البالغة 1.8 تريليون دولار هناك نحو 30 مليار دولار ديون رديئة. وذلك هو الأصل الوحيد الواضح تقييمه، إضافة إلى صندوق تحوط بأكثر من 5 مليارات يورو تعرضت سنداته مؤخراً للتردي الشديد. أما بقية الأصول فيصعب تقييمها ومن ثم تقدير مدى قدرة البنك على توفير السيولة حين الحاجة إليها. أضف إلى ذلك أن البنوك الاستثمارية الكبيرة ليست لها قاعدة تجزئة واسعة.

ثم هناك أيضاً مشكلة لألمانيا، التي كانت متشددة في إنقاذ البنك المركزي الأوروبي للبنوك الإيطالية وقبلها الإسبانية حين تعرضت لأزمة ديون توشك على ضربها. وبالتالي لن يكون سهلاً أن يقبل بقية الأوروبيين بتدخل «كريم» من البنك المركزي الأوروبي لإنقاذ بنوك ألمانية كبرى. هذا أوروبياً، أما عالمياً فتتوالى البيانات والأرقام والتقارير حول أزمة ديون عالمية تكاد توشك على الانفجار، وأحدثها تقرير صندوق النقد الدولي الذي قدر الديون في العالم بأكثر من 150 تريليون دولار. أضف إلى ذلك عالمياً أيضاً التباطؤ في نمو الاقتصاد الصيني الذي يعتمد عليه العالم كله كقاطرة تخرجه من الركود الناجم عن الأزمة السابقة قبل ثماني سنوات.
لم يخرج «دويتشه بنك» بعد من دائرة الضوء، وليست ظاهرة الرعب من انهياره مؤخراً إلا ناقوس إنذار مبكراً على ما يمكن أن يحدث للقطاع المصرفي والمالي العالمي إذا استمرت الأوضاع الحالية لنحو عام آخر. وعلى من يراقب تلك الأوضاع أن يوجه انتباهه ليس فقط لمؤشرات الأسواق وأسعار الأسهم، بل أيضاً لحركة سوق السندات وكل ما يتعلق بتوريق الديون عموماً. ففي ظل التباطؤ الاقتصادي وتضخم حجم الديون يعود النظام لتلك الأدوات السامة (المشتقات الاستثمارية) للتغطية على مشاكله فتتفاقم وتنفجر في أزمة جديدة. وإذا كان العالم في 2008 في وضع أفضل مما هو عليه الآن ما مكنه من عدم الانهيار تماماً فإن وضع الاقتصاد العالمي حالياً من السوء، حيث إن أي أزمة جديدة لن تكون أقل سوءاً مما شهده العالم من كساد مطلع القرن الماضي.

(ألمانيا كانت متشددة في إنقاذ البنك المركزي الأوروبي للبنوك الإيطالية وقبلها الإسبانية وبالتالي لن يكون سهلاً أن يقبل الأوروبيون بتدخل «كريم» من المركزي الأوروبي لإنقاذ بنوك ألمانية كبرى).

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"