اتفاق التجارة البريطاني - الأمريكي وقطاع الصحة

00:14 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. أيمن علي *

من بين الميزات التي روج لها أنصار البريكست، قدرة بريطانيا على عقد اتفاقات تجارية أفضل لها مع دول العالم خارج إطار الاتفاقات بين هؤلاء الشركاء والاتحاد الأوروبي، وفي مقدمة هؤلاء بالطبع تأتي الولايات المتحدة.
يعكف الخبراء البريطانيون والأمريكيون على بحث بنود مفاوضات متوقعة بشأن اتفاق جديد للتجارة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) منذ الإعلان عن إطار عام للاتفاق بين البلدين في فبراير/‏ شباط الماضي. كان ذلك بالطبع ضمن إطار موعد بريكست الأصلي في 29 مارس/‏ آذار الماضي، لكن منذ تأجيله إلى 31 أكتوبر/‏ تشرين الأول المقبل جرت مياه كثيرة جعلت احتمالات اتفاق التجارة بين أمريكا وبريطانيا مختلفة تماماً.
من بين الميزات التي روج لها أنصار البريكست، قدرة بريطانيا على عقد اتفاقات تجارية أفضل لها مع دول العالم خارج إطار الاتفاقات بين هؤلاء الشركاء والاتحاد الأوروبي. وفي مقدمة هؤلاء بالطبع تأتي الولايات المتحدة، ليس فقط بسبب «العلاقة الخاصة» بين بريطانيا وأمريكا، وإنما لأن مثل هذا الاتفاق سيكون مع أكبر اقتصاد في العالم وأكثره مرونة وديناميكية - وفي النهاية لدى أمريكا ربع اقتصاد العالم كله.
وقبل يومين من موعد استقالتها الرسمية من منصبها، استقبلت رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي قام بزيارة رسمية لبريطانيا في الأسبوع الأول من يونيو/‏ حزيران. وخلال مؤتمر صحفي تحدث فيه ترامب عن الاتفاق التجاري المتوقع بين بريطانيا وأمريكا بعد البريكست، مؤكداً أن «كل شيء سيكون مطروحاً على الطاولة» في إشارة إلى أن الاتفاق يمكن أن يشمل المنتجات الزراعية والغذائية التي لا يريد البريطانيون إدراجها ضمن الاتفاقية، وكانت سبباً في رغبة إدارة ترامب في إعادة النظر في الاتفاق بين أمريكا والاتحاد الأوروبي الذي تم التوصل إليه في 2016.
لكن الأهم أنه حين سئل ترامب عما إذا كان ذلك يشمل نظام الرعاية الصحية البريطاني NHS وهو خدمة صحية حكومية أجاب بنعم، كل شيء. وحاولت تريزا ماي التخفيف من الأمر بإشارة عامة إلى أن أي اتفاق تجاري يشمل ما يرغب الطرفان في تبادله والتعامل فيه. لكن وزير الصحة البريطاني مات هانكوك كان واضحاً في تصريح له رداً على الرئيس الأمريكي بأن قطاع الخدمة الصحية في بريطانيا ليس مطروحاً للنقاش ضمن أي اتفاق تجاري.
ومع أن عين الشركات الأمريكية العاملة في قطاع الرعاية الصحية لم تغفل عن قطاع الصحة في بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي عموماً منذ الثمانينات، إلا أن تصريحات ترامب والتوقعات الكبيرة لاتفاق التجارة البريطاني - الأمريكي تعيد الجدل بشدة حول الخدمة الصحية الحكومية في بريطانيا، وتثير شهية الشركات الخاصة الأمريكية.
ويرى الأمريكيون أن حكومة حزب المحافظين في بريطانيا هي القادرة على فتح هذا القطاع أمام الشركات الأمريكية، وأن ذلك قد يكون مقدمة لدخول تلك الشركات في قطاع الصحة في بلدان أوروبية أخرى مثل فرنسا وألمانيا. وإذا عرفنا أن ما تنفقه حكومات تلك الدول على الخدمة الصحية يصل إلى تريليون دولار سنوياً تقريباً.
بدأ اهتمام شركات الرعاية الصحية الخاصة في أمريكا بالقطاع الأوروبي منذ ثمانينات القرن الماضي، وكانت فرنسا وألمانيا الأكثر تشدداً في الدفاع عن الخدمة الصحية العامة فيها وعدم فتحها أمام القطاع الخاص الأمريكي باعتبارها أهم الخدمات التي تقدمها لمواطنيها ضمان شبكة الأمان الاجتماعي.
ويعتز البريطانيون بالخدمة الصحية العامة في البلاد، التي تبلغ ميزانيتها في إنجلترا 150 مليار دولار سنوياً تقريباً. وفي استطلاع في إبريل/‏ نيسان الماضي أجرته مؤسسة التوجهات الاجتماعية البريطانية BSA، رد أكثر من 60% ممن شملهم الاستطلاع بالقول إنهم مستعدون لدفع ضرائب أكثر لتمويل الخدمة الصحية الحكومية.
وللمفارقة، كان حزب العمال البريطاني المعارض - الذي يفاخر بأنه مؤسس الخدمة الصحية العامة - هو من فتح الخدمة العامة للقطاع الخاص في وقت حكم توني بلير في نهاية التسعينات من القرن الماضي. وفعل بلير ما لم تتمكن سابقته زعيمة حزب المحافظين مارجريت تاتشر من فعله. فرغم أن حزب العمال الذي فاز في انتخابات 1997 بشعار الحفاظ على الخدمة الصحية العامة ودعمها، سرعان ما بدأ التحول إلى «العمال الجديد» متخلياً عن بعض مبادئ الضمان الاجتماعي ومن بينها الخدمة الصحية التي فتحت لشراكة القطاع الخاص في 1999. ووصل ما يدفعه نظام الصحة الحكومي حالياً لشركات خاصة تحصل على عقود ضمن الخدمة العامة إلى 10% من ميزانية القطاع.
وهناك عدد من الشركات الأمريكية الخاصة، منها أمريكا للرعاية الصحية Health Care America متعاقدة بالفعل مع الخدمة الصحية العامة في بريطانيا. لكن الشركات الأمريكية تواجه تعقيدات كثيرة في الحصول على عقود مع القطاع منها أنها لا بد وأن يكون لها فرع محلي (مثل شريك محلي) مسجل مفوضية جودة الرعاية CQC التي تضع شروطاً مشددة على الشركاء من القطاع الخاص. وتلك هي التي يريد الأمريكيون التخفيف منها في أي اتفاق تجاري مع بريطانيا لكن البريطانيين يخشون من أن يؤدي تسهيل دخول الشركات الأمريكية إلى خصخصة الخدمة الصحية العامة.
هناك أيضاً شركات الأدوية الأمريكية التي تعتبر القيود البريطانية (والأوروبية عموماً) على التجارة معها مشددة جداً. ومعروف أن الاتحاد الأوروبي، وضمنه بريطانيا أيضاً، لا يسمح باستخدام أدوية تقرها هيئة الأدوية والأغذية الأمريكية إلا بعد مرور عامين على استخدامها والتأكد من فاعليتها.
لذلك، في إفطار عمل للرئيس الأمريكي خلال زيارته الأخيرة لبريطانيا ضم 20 من رجال الأعمال كان 10 منهم يمثلون شركات أدوية. تحتاج بريطانيا بعد البريكست إلى اتفاقات تجارية مع شركاء رئيسيين في مقدمتهم أمريكا، لكن التخلي عن معايير معينة لتسهيل أعمال الشركات الأمريكية قد يشكل قنبلة سياسية تنفجر في وجه أي حكومة مقبلة.

* كاتب صحفي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"