«البجعة السوداء» والاتحاد الأوروبي

03:11 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عبد العظيم محمود حنفي

تقر غالبية الدراسات الاقتصادية بقدرة ألمانيا على إنتاج السلع التي يقبل بقية العالم على شرائها، تظل سمة ثابتة في تاريخ أوروبا الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية ؛ وأن أداء ألمانيا في التصدير علامة على قوتها الاقتصادية وقدرتها التنافسية. وأدى أداء ألمانيا على صعيد التصدير إلى تحقيق انتعاش سريع تقوده الصناعة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية. ولاحظت أن التحول في مسار ديناميكية الحساب الجاري لألمانيا جاء بعد عام 2000، باعتباره انعكاسا لتحسن القدرة التنافسية التي تراجعت في فترة التسعينات،ما أفضى إلى تقلص حصة الصادرات الألمانية في التجارة العالمية في ذلك الوقت.
وعندها تحركت الشركات والنقابات الألمانية في مواجهة تحدي انخفاض القدرة التنافسية بسلسلة من الاتفاقات للحد من ارتفاع الأجور، فضلا عن تحسين إنتاجية العمالة، الأمر الذي ساعد على وضع حد للزيادة في تكاليف وحدة العمل ووازن تأثير الارتفاع الكبير في سعر الصرف الذي جاء بعد بدء العمل باليورو في عام 1999 وساعدت قوة ألمانيا في مجال تصنيع السلع الرأسمالية على استفادة الاقتصاد من طفرة النمو في الاقتصادات الصاعدة، ما أدى إلى توليد طلب قوي على السلع الاستثمارية، كما أدى الطلب من الولايات المتحدة دورا مهما بشكل مباشر وغير مباشر، فعلى سبيل المثال أدى تزايد طلب الولايات المتحدة على السلع الاستهلاكية الصينية إلى تزايد طلب الصين على السلع الاستثمارية. واستفاد المصدرون الألمان من تخصصهم في صناعة الآلات والمعدات والسلع المصنعة، ومن تركيزهم التقليدي على الابتكار والمرونة، بما في ذلك تقديم خدمة متميزة بعد البيع، وكان هذا المزيج الناجح يعنى أن الصادرات الألمانية كانت أقل حساسية لارتفاع الأسعار مقارنة بكثير من السلع الأخرى، الأمر الذي ساعد أيضا على تماسك الاقتصاد عندما ارتفع سعر اليورو. وظل الاقتصاد الألماني و«النجاح» متلازمين منذ فترة طويلة حتى إن البعض اعتبر ذلك من البديهيات. كما التصق به مسمى الاقتصاد الرابع على كوكب الأرض واسم الاقتصاد صاحب «أعلى الصادرات».
ويكفى القول إن ألمانيا لديها أكبر فائض تجارى. وترى بعض التحليلات إن «قوة الاقتصاد الألماني»، شرط لازم لقوة «الاتحاد الأوروبي». فكل من برلين وبروكسل تدركان جيدًا أن ألمانيا المتقدمة شرط أساسي لتقدم باقي أوروبا.
وفى السنوات الأخيرة نبهت بعض التحليلات إلى أن الاقتصاد الألماني ربما يصبح مثل «البجعة السوداء» التي قد تؤدى إلى انهيار الاتحاد الأوروبي. لكن لم يضع أحد في اعتباره مصداقية هذا التصور كما لم يحدد أحد موعد انهيار الكيان الأوروبي، وأن هذا الموعد قد لا يكون بعيدًا. فالتوازن الإيجابي في تجارة برلين يثير قلق معظم الشركاء الأوروبيين، لأنه يساعد ألمانيا على الثراء على حساب الدول الأوروبية الأخرى. فالوضع الاقتصادي القوى لبرلين يتيح لها القدرة على إملاء شروطها على الدول الأوروبية الأخرى. ويتعلق ذلك بوجه خاص بسياسة الاتحاد الأوروبي الداخلية، بدايةً من سياسة الهجرة ونهايةً بالسياسة الاقتصادية القاسية التي تفرضها ألمانيا على كثيرٍ من الدول الأوروبية. فالموقف السياسي السلبي تجاه هذه المشكلات يعد حقيقةً عامةً يعترف بها حتى الساسة الألمان.
ولا شك أن هذه الهيمنة الألمانية في أوروبا تؤدى إلى حدوث توترات متعددة. لأن السخط سيتواصل، ومن الممكن أن يؤدى في أي لحظة إلى انفجار العلاقات ليس فقط في بروكسل التي تترأس الاتحاد الأوروبي، ولكن أيضًا في برلين التي تقود الاتحاد الأوروبي. لكن العواقب الأكثر وضوحًا كانت في مسألة الهجرة التي تتسم بالحدة والحيوية في الوقت الحالي. وتؤكد ذلك النتائج الإيجابية لأنصار سياسة الهجرة القاسية والقوميين في الانتخابات في معظم البلدان الأوروبية. وعدم الرضا عن سياسة الهجرة كان السبب وراء فوز المتشككين في الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، ما أدى إلى خروجها من الاتحاد.
ووفقًا للسيناريوهات السيئة فإن المجر والنمسا سيكونان أول من سيغادر الاتحاد الأوروبي. وهذا حتمًا سيزيد من الضغط على اليورو وقد يؤدى إلى الرجوع إلى العملات القومية، وبالطبع سيؤدى انهيار اليورو إلى خروج الكثير من رؤوس الأموال من الاقتصاد الأوروبي، ما سيعرقل جهود حل الأزمة ويؤدى إلى استمرار تساقط قطع الدومينو الواحدة تلو الأخرى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"