لماذا تفشل الحكومات اللبنانية؟

00:55 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة

يجمع اللبنانيون على أن حكوماتهم المتعاقبة فشلت في احترام الحد الأدنى من حقوقهم ، كما فشلت في تأمين أبسط الخدمات المطلوبة بدءاً من الكهرباء والمياه إلى غيرها. فشلت في تحقيق أبسط قواعد التنمية ، وها نحن اليوم نغرق في النفايات التي لم يعالج موضوعها بجدية ومنطق منذ عقود. هل نقبل ما نعيشه اليوم؟ هل يعقل مثلاً أن يتم تزفيت طريق بيروت جبيل الدولي قبل ظهر نهار سبت في عز الصيف والحر؟ هل تؤخذ هذه القرارات وغيرها عن جهل وفوضى وسوء أداء بريء، أم أنها مقصودة لتعذيب المواطن وجعله ينسى كل الاهمال المتراكم في الحقوق والحريات؟ هل نقبل بحجم قطاع عام فضفاض لا يلبي حاجات المواطن بل يسرق حقوقه ويرتشي منه في أكثرية الحالات؟ هل يمكن تبرير تكلفة الإدارة العامة وسوء أدائها وضعف إنتاجيتها؟ عجز الموازنة المستمر وتراكم الدين العام هو أبسط المؤشرات لفشل إدارة الدولة وانعكاسها السلبي على وضع المواطن ومستقبله. ما نعيشه اليوم من أوضاع مقلقة على كل الصعد ناتج عن سوء أداء السلطات المتعاقبة، فبدأت النتائج تظهر للرأي العام الداخلي كما الخارجي. فعلاً نعيش في ظروف لا يمكن أن نحسد عليها.

ما هي أسباب فشل الحكومات اللبنانية المتعاقبة والتي تنتج نفايات وعتمة وخلل أمني بدأ يظهر في الخطف والقتل بالإضافة إلى الإعلان عن قيمة الفدية السخية المدفوعة التي ربما تشجع على القيام بهذه الأعمال المشينة؟
أولاً: العمل العام المعتمد في لبنان من النواحي الإدارية والرقابية والمالية شاخ، ويجب إعادة النظر فيه كليا. أصبح من الماضي ويجب تغييره كليا أو أقله تحديثه بشكل جذري كي يكون في خدمة المواطن وليس العكس. لن نقارن أنفسنا بما يحدث في سنغافورة التي سبقتنا أجيالاً بالرغم من أنها دولة حديثة وصغيرة مساحة وسكاناً كما نحن، لأننا لم نتوفق كما كان حالها بقيادات بالمستوى المطلوب من نواحي الرؤية والشجاعة والنزاهة والعلم.
ثانياً: نظرية «بومول» التي تقول إن الإنتاجية ترتفع بسرعة خفيفة في القطاعات التي تعتمد على اليد العاملة مقارنة بالقطاعات التي تعتمد أكثر على رأس المال. يبرر «بومول» في هذه الحالة كبر حجم أي قطاع عام لأنه واقعيا يعتمد على اليد العاملة بشكل أساسي خاصة في خدمات إنسانية كالتعليم والصحة والغذاء وغيرها. إلا أن الواقع يشير إلى غير ذلك في شركات القطاع الخاص التي تستعمل اليد العاملة بشكل مكثف مقارنة برأس المال كشركات الخدمات التي رفعت انتاجيتها بشكل كبير عبر تحسين الإدارة واستعمال التقنيات الحديثة في التنظيم والتطبيق. في كل حال، الإدارة اللبنانية فضفاضة وغير منتجة ليس بسبب ارتكاز عملها على الخدمات وإنما بسبب سوء أو غياب المحاسبة الجدية كما بسبب نوعية العاملين في القطاع العام عموماً مقارنة بالخاص. لا يمكن الدفاع عن فوضى وحجم القطاع العام تبعا لنظرية «بومول» إلا أن ما يقوله مهم من ناحية مقارنة نسب ارتفاع الإنتاجية بين القطاعات.
ثالثاً: قانون «أولسون» تبعا للاقتصادي الشهير الذي يقول إن الديمقراطية تسمح لأصحاب المصالح الخاصة أو بعض المجموعات بالوصول إلى أهدافهم على حساب الشعب عبر الحملات الإعلامية والمالية والضغط السياسي والاجتماعي. ينتج عن هذا التصرف سوء أداء إداري وحكومي حيث تأتي النتائج ليس لمصلحة الشعب وإنما لتأمين مصالح فئات قليلة تملك المال ومدعومة سياسياً في الداخل والخارج. نعلم جميعا قوة المصالح الخاصة في المجتمع اللبناني وعدم احترام مبدأ تضارب المصالح بحيث أتت النتائج مضرة بالمواطن وبأوضاع الخزينة العامة.
رابعاً: تكاثر القوانين والإجراءات والقواعد العامة التي تعقد عمل القطاع العام وتدفعه إلى التوظيف أكثر كما تعطي فرصاً كبيرة للارتشاء. في العديد من الدول بينها لبنان، هنالك أجهزة رقابة صورية لا تطبق الأعمال التي خلقت من أجلها. هنالك مؤسسات عامة غائبة بالرغم من احتوائها للعديد من الموظفين الذين يقبضون أجورهم كاملة في آخر كل شهر. هنالك مسؤولون سياسيون يقبضون رواتبهم وتعويضاتهم كاملة دون أي انتاجية في العمل ولا يستقيلون احتراماً لأنفسهم ولعائلاتهم قبل احترامهم للمواطن. هنالك مجالس رقابية وتنظيمية لبعض القطاعات بأجور باهظة مقارنة بالانتاجية الضعيفة دون أي حساب أو عقاب. هل يمكن أن نستمر في ظل هذه الفوضى المتفاقمة التي ستدمر الحاضر كما المستقبل؟ أكثر ما يجري بحثه اليوم هو تمديد سن التقاعد في بعض القطاعات وكأننا نعيش في زمن رفاهية كاملة ونملك الموارد الكافية للرخاء والعز. احتمال زيادة الفوضى كبير.

خامساً: التلاعب بالأرقام لإخفاء الحقائق وهذا ما يحصل لطمأنة المواطن وتخديره. من يعلم في لبنان اليوم ما هو حجم الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي بشكل مؤكد؟ هنالك تقديرات تختلف كثيرا في حدود 30% من الرقم المعتمد. من يعلم ما هو حجم الدين العام علما أن طرق احتسابه تختلف وتعطي أرقاما مختلفة كليا. من يعلم ما هي نسب البطالة والتضخم وحجم القطاعات المختلفة وغيرها؟ نعيش في ضبابية خطيرة حيث نجهل فعلا واقعنا الاقتصادي والمالي الصحيح كما الاجتماعي. كيف يمكن ادارة مجتمعنا عندما نجهل كلنا خصائص الواقع الذي نعيش فيه؟ كيف يمكن بناء سياسات عامة صحيحة عندما نجهل واقعنا الحالي؟ لماذا لا نقوي مؤسسات الاحصاء ونجعلها تعطينا الأرقام بعيداً عن السياسة والمصالح؟ كيف يمكن للمؤسسات الدولية المالية وغيرها بناء علاقات معنا عندما لا يصدقون أرقامنا ومعلوماتنا التي لا نصدقها نحن أولا؟ نعيش في فوضى رقمية واحصائية لا نحسد عليها.

سادساً: كيف تنفق إيرادات الدولة وكيف تتغير مع الوقت والممارسة؟ هل يستفيد منها أكثر فأكثر الفقير والشباب أم الغني والمتقاعد؟ تشير الوقائع إلى سوء توزع الانفاق أكثر فأكثر بحيث يكون التأثير على الانتاجية العامة ضعيفاً جداً. من يستفيد أكثر من انفاق وفوضى الإدارة العامة اللبنانية؟ لا شك أن الشباب محروم والفقراء يغرقون أكثر في بؤسهم وفقرهم. أما أصحاب المصالح فيستفيدون كثيرا من عقود النفايات والاتصالات والكهرباء والطرق والمباني بشكل أو آخر على حساب المواطن العادي. حجم الأموال التي تنفق على المتقاعدين ترتفع أيضاً لأن نسبتهم تزداد في المجتمعات، وبالتالي يسعى السياسيون لارضائهم خاصة قبل الانتخابات أي انتخابات عندما تحصل. هل نتحمل أكثر سوء التوزيع؟
سابعا: الصراع السياسي القائم في السلطة المرتبطة كلياً أو جزئياً بمصالح الخارج تعرقل التقدم وتدفع الشباب إلى تجنب أو رفض العمل في القطاع العام. الصراع السياسي في لبنان منع علينا انتخاب رئيس جديد للجمهورية أي أن لبنان هو الدولة الوحيدة في العالم التي ليس لديها رئيس لأن المؤسسات معطلة والقوانين والقواعد ضبابية. الصراع السياسي منع إقرار موازنات عامة منذ عشر سنوات ويعرقل تعيين قيادات جديدة في مراكز حساسة. الفوضى تزداد والفساد ينتشر أكثر يوما بعد يوم وستكون طرق المعالجة عندما تحصل أكلف ومعقدة أكثر خاصة وأن الآلاف من الشباب لا يفكرون اليوم إلا في أمر واحد وهو إيجاد فرص عمل في الخارج لبناء مستقبلهم لأن العامل الأساسي الذي لا يعوض هو الوقت وإضاعته يشكل تكلفة كبيرة.
يبقى أن نضيف أن ما يحصل في لبنان اليوم، هو غير مسبوق في تاريخنا الحديث في حجمه وعمقه وبؤسه. يحصل لأننا كلبنانيين نسمح به ولا نحاسب ولا نعاقب سياسياً وانتخابياً من يسيء إلى اقتصادنا ومستقبلنا ومجتمعنا. نريد الشيء وعكسه، أي التقدم مع طبقة سياسية نجمع على فشلها. نريد التطور ولا نأتي بمن يملكون الكفاءة لتحقيقه. فلننظر إلى أنفسنا أولاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"