الاقتصاد البريطاني يواجه مزيداً من الصعاب

03:55 صباحا
قراءة 4 دقائق

لم يكن التقرير ربع السنوي عن التضخم الذي صدر عن بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) مفاجئاً في خفضه توقعات النمو إلى صفر . مع ذلك بدا البعض كأنه فوجئ بالتراجع الشديد في أداء الاقتصاد البريطاني، كأنما المؤشرات المتواترة منذ العام الماضي لا تقود إلى نتيجة مماثلة وربما أسوأ مما أعلن . أرجع تقرير بنك إنجلترا انعدام فرص النمو في 2012 إلى عدة عوامل أهمها ما يحدث في منطقة اليورو وتأثيره في بريطانيا . صحيح أن نصف تعاملات بريطانيا الاقتصادية الخارجية هي مع دول أوروبا، وبالتالي فكل ما يجري في أوروبا يؤثر في الاقتصاد البريطاني، لكن ذلك لا ينفي أن هناك عوامل ذاتية بريطانية وراء تدهور الاقتصاد بهذه الحدة .

فقد كانت التوقعات العام الماضي أن يشهد هذا العام بداية انتعاش الاقتصاد البريطاني وبنسبة نمو تصل إلى 2 في المئة . وفي نهاية الربع الأول من العام الجاري، وبعدما انكمش الاقتصاد لربعين متتاليين وأصبح تقنياً في حالة ركود مضاعف، توقع بنك إنجلترا أن يكون النمو الاقتصادي للعام بنسبة 8 .0 في المئة . ففي الربع الأول هبطت الإنتاجية بنسبة 3 .0 في المئة، ثم في الربع الثاني (من إبريل/ نيسان إلى يونيو/ حزيران) هبطت الإنتاجية بنسبة 7 .0 في المئة ليزداد الركود المضاعف عمقاً وتنعدم أي فرص للنمو هذا العام . ورغم أن استضافة الأولمبياد قد تعني تحسناً طفيفاً في الأرقام في الربع الثالث، فإن ذلك لا ينتظر أن يخفف من حدة التدهور، بل ربما تم تعديل التوقعات مع نهاية العام ليشهد 2012 نمواً سلبياً (انكماشاً) للاقتصاد البريطاني .

ولا يجد المعلقون تفسيراً لتراجع الناتج الاقتصادي البريطاني في ظل ما ينشر شهرياً من أرقام تدل على تحسن طفيف في سوق العمل . وإذا كانت البطالة تتراجع ومع ذلك يهبط الناتج فإن الإنتاجية للعامل البريطاني هي التي تنخفض . ويرجح البعض أن من العوامل الذاتية التي أدت إلى خفض التوقعات بهذه الحدة أن سياسة التيسير الكمي (أي ضخ البنك المركزي للنقد في الاقتصاد عبر تمويل البنوك والمؤسسات بشراء السندات) انتهى مفعولها . وكانت آخر دفعة هي ضخ بنك إنجلترا 50 مليار جنيه استرليني في القطاع المصرفي لتشجيع الإقراض . ووصل حجم عملية التيسير النقدي حتى الآن إلى 375 مليار جنيه استرليني (ما يقارب ثلثي تريليون دولار) . لكن الواضح أن البنوك لا تستخدم تلك الأموال في الإقراض لتنشيط الاقتصاد بشكل عام وإنما تستفيد منها لتحسين حساباتها المالية المعطوبة من أثر الأزمة المالية قبل أربع سنوات .

ويستعد البنك، بالتعاون مع وزارة الخزانة لضخ 80 مليار جنيه استرليني إضافية في القطاع المصرفي لتشجيع الإقراض للأفراد والأعمال الصغيرة بهدف إنعاش النشاط الاقتصادي . إلا أن جدوى الموجة الجديدة من التيسير الكمي قد لا تكون أفضل من سابقاتها . ومن العوامل الذاتية التي تجعل التعافي الاقتصادي البريطاني بعيد المنال في المدى القريب، سياسات حزب المحافظين، الشريك الأكبر في الائتلاف الحاكم مع حزب الديمقراطيين الليبراليين . فقد بدأت الحكومة منذ توليها قبل عامين سياسة تقشف صارمة تتضمن تقليل الإنفاق العام وتسريح العاملين وخفض ميزانيات الخدمات العامة . ويقول منتقدوها أن ذلك التخفيض الكبير في وقت قياسي أدى إلى انكماش الاقتصاد والقضاء على فرص النمو . ولا تستطيع الحكومة في الواقع الرد بحجة أنها جنبت بريطانيا مصيراً كمصير إسبانيا التي تطلب الإنقاذ المالي أو كمصير إيطاليا التي تتعرض لأزمة مالية شديدة الحدة . فوضع الاقتصاد البريطاني مختلف، حتى وإن تشابه في مشاكله مع دول اليورو المتعثرة مالياً نتيجة فقاعة القطاع المالي . ثم إن مئات المليارات التي ضخت من الأموال العامة لإنقاذ القطاع المصرفي والمالي، ساعدت ذلك القطاع على إخفاء علله إلى حين لكنها مرشحة للظهور مع تردي الوضع الاقتصادي وزيادته سوءاً .

المشكلة أن أرقام الاقتصاد الكلي ربما تظل محل جدل بين السياسيين في الحكومة والمعارضة، ومادة للمعلقين والمحللين الاقتصاديين، إنما ما يشعر به المواطنون في بريطانيا قد يتجاوز ذلك الجدل . فعلى مدى عامين أو أكثر من توقع الانتعاش لم يعد على البريطانيين سوى ارتفاع معدل التضخم، وبالتالي زيادة كلفة المعيشة، مع تجميد الأجور أو حتى انخفاضها عملياً . أضف إلى ذلك ارتفاع معدلات البطالة نتيجة سياسة التقشف وخفض الإنفاق العام، ولم يحدث ما توقعته الحكومة من تعويض القطاع الخاص لفرص العمل التي تلغى في القطاع العام والحكومة . وليس أمام الحكومة البريطانية سوى الاستمرار في سياستها التقشفية مستهدفة إرجاء مشكلة الديون الهائلة التي قد تضطرها إلى طلب إنقاذ مالي من الخارج . كذلك لا تبدو هناك حلول متاحة أمامها لإنعاش الاقتصاد سوى تكرار جولات ضخ النقد في القطاع المصرفي . حتى الأصوات من بين رجال الأعمال والمستثمرين أساساً التي نادت بخفض الفائدة لم تلق أذناً صاغية عند محافظ البنك المركزي . وكان رده، وهو محق إلى حد كبير فيه، أن خفض نسبة الفائدة ربع نقطة مئوية لن يشكل فارقاً بين الانتعاش والانكماش . فنسبة الفائدة بالفعل عن أدنى مستوياتها ولا تزيد على 5 .0 في المئة . وفي ظل استمرار السياسات الحالية، ومشاكل منطقة اليورو، لا يتوقع أن ينعكس منحى التراجع في الاقتصاد البريطاني قبل عامين على الأقل .

خبير اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"