ماذا تعلمنا من الأزمة؟

02:34 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة

كانت أزمة‮ ‬2008‮ ‬كبيرة وعميقة ووصفها الاقتصاديون ب«الركود الكبير‮»‬،‮ ‬إذ ضربت معظم الاقتصادات الكبيرة بدءاً من الولايات المتحدة‮ ‬إلى‮ ‬قبرص‮. ‬حتى الدول الناشئة التي‮ ‬لم تصب بشظاياها،‮ ‬تأثرت بها من نواحي‮ ‬العلاقات التجارية والمالية والاستثمارات‮. ‬أزمة‮ ‬2008‮ ‬هي‮ ‬أزمة أخلاق وثقة قبل أن تكون أزمة مالية نقدية واقتصادية‮. ‬هل تعلم العالم منها لتجنب حصول كوارث مستقبلية كبيرة؟ هل تعلم الاقتصاديون منها لوضع سياسات تفي‮ ‬بالغرض أي‮ ‬تجنب العالم مغامرات جديدة ترفع من مستوى البطالة وتقتل النمو وتكبر الفجوات بين الفقراء والأغنياء‮. ‬من أسباب نجاح الولايات المتحدة الاقتصادي‮ ‬عبر العصور وحتى منذ أزمة ‮‬2008،‮ ‬أنها تعترف بأخطائها وتتعلم منها وتتمتع بالمرونة الكافية للتغيير دون عقد‮. ‬ما زالت أميركا قائدة الإبداع والتجدد والابتكار في‮ ‬العالم،‮ ‬لذا تعافت من الأزمة بينما تبقى أوروبا تعانيها ليس فقط في‮ ‬اليونان وإنما أيضاً في‮ ‬ايطاليا وفرنسا وغيرها‮.‬

يحدد‮ «‬هنري‮ ‬كيسينجر‮» ‬في‮ ‬كتابه‮ «‬النظام العالمي‮» ‬الأطر التي‮ ‬يجب أن تتوافر عالمياً لتحقيق الاستقرار وهي‮ ‬مجموعة قواعد منطقية تنظم العلاقات بين الدول وتحدد ما هو مقبول وما هو مرفوض وتمنع عمليا سيطرة فريق أو دولة على العالم أجمع‮. ‬يتابع كيسينجر أنه من الغباء بمكان إلغاء أنظمة تعاون قبل الاتفاق على أخرى فاعلة ومنطقية وذلك منعاً للفوضى‮. ‬يشدد كيسينجر على أن إدارة العلاقات بين الدول الكبيرة هي‮ ‬في‮ ‬غاية الأهمية لتثبيت السلم العالمي‮ ‬تماماً كما حدث مع إيران في‮ ‬شأن النووي‮. ‬كان من المستحيل الوصول‮ ‬إلى‮ ‬اتفاق لو كانت العلاقات فيما بين أعضاء مجموعة‮ «5‮+‬1» ‬سيئة‮. ‬كان سيكون الوصول‮ ‬إلى‮ ‬حل أصعب،‮ ‬ليس فقط بالنسبة للمجتمع الدولي‮ ‬وإنما لايران أيضاً‮. ‬من ناحية أخرى،‮ ‬يقول‮ «‬مارك كارني‮» ‬حاكم المصرف المركزي‮ ‬البريطاني‮ «‬إن الثقة تأتي‮ ‬على الأقدام لكنها تغادر كالبرق‮». ‬بناء الثقة‮ ‬يتطلب الوقت الكثير والجهد المضني،‮ ‬لكن خسارتها تتم بسرعة خاصة في‮ ‬المواضيع المصرفية والمالية وبالتالي‮ ‬إعادة بنائها تصبح مهمة معقدة أو ربما مستحيلة‮. ‬تقول مؤسسة الخدمات المالية البريطانية إن هنالك‮ ‬5‮ ‬أسباب للأزمة نلخصها كما‮ ‬يلي‮:‬
أولاً‮: ‬خلل كبير في‮ ‬الحسابات الدولية والمقصود هنا حسابات الموازنة والعلاقات الخارجية‮. ‬الخلل الأكبر السلبي‮ ‬هو في‮ ‬الولايات المتحدة والخلل الايجابي‮ ‬الكبير هو في‮ ‬حسابات ألمانيا والصين‮. ‬طبعاً من‮ ‬غير الممكن أن تكون حسابات كل الدول متوازنة،‮ ‬بل المقبول أو حتى المطلوب أن‮ ‬يكون الفائض أو العجز محدودا،‮ ‬أي‮ ‬لا‮ ‬يؤثر في سلامة الاقتصاد الدولي‮. ‬في‮ ‬الحقيقة سوء التوازن الاقتصادي‮ ‬والدولي‮ ‬كان أحد أهم مصادر الأزمة‮.‬
ثانياً‮: ‬قيام المصارف التجارية بمعاملات تبادل الأدوات المعقدة ذات المخاطر المرتفعة التي‮ ‬ليست أصلاً من طبيعة أعمالها‮. ‬كما أن الاقراض لم‮ ‬يكن مدروساً بل متهوراً في‮ ‬العديد من الأحيان‮. ‬تم الرهان على أن الازدهار الذي‮ ‬تحقق على مدى سنوات قبل الأزمة سيستمر مستقبلاً،‮ ‬وهذا ما لم‮ ‬يحصل‮. ‬لذا‮ ‬يمكن القول إن المصارف لم تحسن إدارة مخاطرها المالية،‮ ‬ما سبب حدوث تضخم اصطناعي‮ ‬في‮ ‬الحسابات وبالتالي‮ ‬تدهور كبير وسريع في‮ ‬أوضاعها العامة‮.‬
ثالثاً‮: ‬ارتفعت الديون الخاصة‮ ‬إلى‮ ‬ما‮ ‬يفوق القدرة على التسديد‮. ‬تقع المسؤولية حكماً‮ ‬على المقرض والمقترض الذين تجاهلوا الواقع بل‮ ‬غامروا في‮ ‬الاتكال على الحسابات الخاطئة‮. ‬لم تكن المؤونات كافية ما سرع الانحدار‮.‬
رابعاً‮: ‬كانت المخاطر كبيرة والضمانات‮ ‬غير مناسبة،‮ ‬وبالتالي‮ ‬خاف الجميع من الحادثة الأولى وبالتالي‮ ‬تحققت حلقة السقوط السريع الذي‮ ‬دفع ثمنه الجميع‮. ‬لم‮ ‬يحدث السقوط فقط لأسباب اقتصادية ومالية وانما لأسباب نفسية أي‮ ‬الخوف،‮ ‬وهذا ما قرب أكثر علم الاقتصاد بالنفس‮.‬
خامساً‮: ‬مهما كانت القواعد دقيقة ومدروسة،‮ ‬يبقى الأهم كيف‮ ‬يتصرف عملاء السوق معها ومن ضمنها‮. ‬الرغبة في‮ ‬التحايل أو تخطي‮ ‬المنطق أو المغامرة إذا وجدت تستطيع تخطي‮ ‬أذكى وأدق القواعد الموضوعة‮.‬
يرتكز النظام الاقتصادي‮ ‬الرأسمالي‮ ‬على مبادئ أربعة لا‮ ‬يمكن النجاح من دونها‮. ‬احترام الملكية الخاصة من عقارية وفكرية ومالية وغيرها‮. ‬ثانياً،‮ ‬احترام العقود ووجود سلطات عامة مستقلة تفرض تنفيذها عند وقوع خلافات أو خلل أو سوء نية أو‮ ‬غيرها‮. ‬هنالك ضرورة لوجود أسواق حرة بحيث تكون الأسعار معبرة عن العلاقة بين العرض والطلب‮. ‬الأسعار المدعومة أو المحددة بقرارات حكومية تضر بالسوق وتحدث خللا في‮ ‬الأسواق وبالتالي‮ ‬تعرض الأسواق للسقوط‮. ‬رابعاً‮ ‬لا بد من وجود سلطات عامة تطبق سياسات مدروسة تدعم نشاط القطاع الخاص،‮ ‬بل تؤمن له الأطر الضرورية كي‮ ‬يعمل بواقعية‮.‬
الجميع‮ ‬يعترف بأن أزمة‮ «‬الركود الكبير‮» ‬كانت قاسية وسببت العديد من المشاكل لجميع الدول‮. ‬هل تعلمنا منها؟ ما هي‮ ‬الدروس المقتبسة منعا للتكرار أو أقله تخفيفاً للخسائر إذا ما تكررت التجربة السيئة؟ هنالك توافق بين الاقتصاديين العالميين على الدروس التالية‮:‬
أولاً‮: ‬تغيير التركيز في‮ ‬العلوم الاقتصادية من الإصرار على التوازنات‮ ‬إلى‮ ‬معالجة الخلل الذي‮ ‬يشكل طبيعة العالم الحالي‮. ‬يرتكز علم الاقتصاد اليوم على تحقيق التوازنات وعلى الرجوع إليها عند تركها،‮ ‬وهذا جيد،‮ ‬إلا أنه لا‮ ‬يحصل دائماً‮. ‬من الضروري‮ ‬التركيز في‮ ‬العلوم الاقتصادية الحديثة على معالجة الخلل لأن التوازن هو جيد،‮ ‬لكنه صدفة ومؤقت في‮ ‬أفضل الحالات‮.‬
ثانياً‮: ‬سياسات تخفيف الاستدانة السريع والمترافق مع سياسات التقشف المالية تعمق المشكلات ولا تضع لها حلولاً‮. ‬فرض سياسات التقشف من قبل صندوق النقد والمجموعة الأوروبية على العديد من الدول المتأزمة وليس اليونان فقط عمق الأزمة اليونانية وأحدث تغييراً‮ ‬كبيراً‮ ‬في‮ ‬العلاقات‮. ‬اعتماد هذه السياسات لم‮ ‬يعمق الأزمة فقط بل جعل النهوض منها أصعب وأكثر كلفة‮.‬
ثالثاً‮: ‬على سلطات الرقابة القيام بأعمالها وليس التفرج‮. ‬هنالك واقع مزعج،‮ ‬وهو أن أجهزة الرقابة لم تكن سريعة وجدية وقاسية خاصة قبل تفاقم الأزمة أي‮ ‬في‮ ‬2006‮ ‬وما بعد‮. ‬تجنب الأزمات هو واجبها،‮ ‬ولا تقع المسؤولية عليها وحدها بل على السياسيين الذي‮ ‬تركوها‮.‬
رابعاً‮: ‬اعتماد مبادئ الثواب والعقاب خاصة من قبل الإدارات الخاصة والعامة‮. ‬تم‮ ‬غض النظر عن العديد من الشوائب منها بعض التزوير والاختلاسات‮. ‬تمت معاقبة بعض الأشخاص،‮ ‬وليس جميعهم،‮ ‬وكأنها فشة خلق أو كبش محرقة أو كان هنالك ضرورة لمعاقبة بعض المسؤولين المرتكبين‮. ‬تعلمنا أن للتزوير والسرقة نتائج اقتصادية سلبية ضربت الثقة بالاقتصاد العالمي‮.‬

خامساً‮: ‬السماح بانتشار الأدوات المالية والنقدية المعقدة والخطرة أسهم في‮ ‬ضرب المنافسة وزيادة المخاطر العامة‮. ‬ليس باستطاعة كل المؤسسات والمصارف تركيب هذه الأدوات،‮ ‬وبالتالي‮ ‬حدث الخلل المالي‮ ‬لمصلحة مؤسسات معينة أتقنت التبادل في‮ ‬هذه الأدوات‮. ‬اكتشف العالم هذه الأدوات بعد حصول الكوارث وتفاجأ بها‮.‬

سادساً‮: ‬نظام المنافع والربح في‮ ‬المصارف والشركات الذي‮ ‬شجع المسؤولين على المخاطرة،‮ ‬خاصة أن الخسائر تحدث بعد أن‮ ‬يكون المسؤول‮ ‬غادر أو انتقل‮ ‬إلى‮ ‬مكان آخر أو تقاعد‮. ‬كما أن أنظمة الإفلاسات أي‮ ‬الفصل السابع أو الحادي‮ ‬عشر أو‮ ‬غيرهما في‮ ‬الدول الأساسية تحمي‮ ‬المتهورين ولا تعاقبهم ولا تميز بينهم وبين أخطائهم،‮ ‬بل تعطيهم الوقت الكافي‮ ‬للإصلاح أي‮ ‬عملياً‮ ‬تشجعهم على المخاطرة المسبقة المتهورة وغير المدروسة‮.‬

يحدد‮ «‬هنري‮ ‬كيسينجر‮» ‬في‮ ‬كتابه‮ «‬النظام العالمي‮» ‬الأطر التي‮ ‬يجب أن تتوافر عالمياً لتحقيق الاستقرار

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"