مخاطر التعافي

03:45 صباحا
قراءة 4 دقائق
مع مرور عام الآن على قمة الازمة المالية، والتي تمثلت في انهيار بنك ليمان براذرز الاستثماري الأمريكي، تبدو بشائر على ان فترة الركود الاقتصادي التي اعقبت الازمة المالية لن تكون طويلة . فقد بدأت اقتصادات رئيسية في اوروبا وغيرها في النمو في الربع الثالث من العام الجاري في دلالة على قرب خروجها من الركود . ورغم الحذر الشديد في التفاؤل باحتمال التعافي الاقتصادي العالمي بنهاية هذا العام أو بداية العام المقبل، الا ان واضعي السياسات الاقتصادية والمالية في الاقتصادات الكبرى والصاعدة، والمستثمرين ورجال الاعمال، بدأوا بالفعل التخطيط لما بعد الركود . وهنا تكمن مخاطر اساسية يجب التنبه لها والعمل على تلافيها كي لا نشهد، وبسرعة، ازمة اعمق من الحالية .

يعود القدر الأكبر لنمو اقتصاد المانيا وفرنسا واليابان والبرازيل إلى خطط الانقاذ الحكومية وما تضمنته من ضخ لاموال طائلة، سواء في القطاع المالي والمصرفي أو في القطاعات الاخرى عبر اجراءات تحفيز غير مسبوقة من خفض كبير لأسعار الفائدة إلى اعفاءات ضريبية على الشركات والافراد وعمليات تأميم لمؤسسات خاسرة ومساعدات لشركات على وشك الانهيار . وبلغت قيمة ما ضخته الحكومات حول العالم في اقتصاداتها من الاموال العامة حتى الان نحو 18 تريليون دولار . ومع ان الرقم يبدو هائلا، وهو بحق كذلك، الا انه لا يشكل سوى أقل من خمس الغليان الذي حدث في قيمة الاصول في السنوات الخمس الاخيرة . فعلى سبيل المثال بلغت قيمة الاصول المالية في الاسواق العالمية بنهاية عام 2006 ما يصل إلى 100 تريليون دولار . وكانت الاصول العقارية انتفخت بشكل مبالغ فيه منذ مطلع القرن فيما عرف بالفقاعة العقارية التي انفجرت في الولايات المتحدة في ربيع العام قبل الماضي (2007) وكانت بداية الانهيار في القطاع المالي ثم الركود العالمي الكبير .

وإذا كانت إجراءات التحفيز الاقتصادي من قبل الحكومات اصلحت اعراض الازمة المالية ونشطت الاقتصادات بتدخل خارجي، فذلك هو الفارق بين الركود والكساد . فلم يصل الاقتصاد العالمي إلى حالة كساد كما حدث في ثلاثينات القرن العشرين فيما عرف بالكساد الكبير بعد الحرب العالمية الاولى . ففي حالة الركود يمكن للسياسات ان تؤتي نتيجة، أما في الكساد فلا يجدي التدخل نفعا حتى يصل الاقتصاد إلى القاع تماما ويعاود النهوض على اسس جديدة تماما . وهكذا تبدو التدخلات الحكومية وكانها ارجأت الكساد ودفعت بسرعة نحو تعافي من الركود لا يزال محل جدل حول قوته وسلامته لضمان استمرار النمو على المدى القصير والمتوسط . وتدرس الحكومات الآن سبل وقف إجراءات التحفيز وحتى إيجاد مخرج لاستعادة ما ضخته من أموال، أو معظمها، طالما بدأ الخروج من الركود وترك الأسواق تصلح نفسها بنفسها كما تقول الحكمة الاقتصادية التقليدية لمروجي حرية السوق والاقتصاد .

وهنا يكمن الخطر الأكبر، إذ إن آليات السوق التقليدية اثبتت فشلاً ذريعاً ولم تصلح نفسها في الازمة العالمية كما كان يعتقد . وجاء التدخل الحكومي وهو عكس كل ما اقتنع به منظرو الرأسمالية المتحررة ومروجو موجتها الثالثة المتعولمة ليعالج عرضا فشل الهيكل الاقتصادي الرأسمالي ونماذج عمله التقليدية في التعايش معها والشفاء منها بآلياته الخاصة . ومن شأن وقف العلاج الان، أو حتى سحبه تدريجيا، ان يؤدي إلى انتكاسة على الأرجح تضرر ضررا ابلغ بالنظام المالي العالمي والاقتصاد عموما . ويعول اقطاب الاسواق والمستثمرون والقطاع الخاص عموماً على تخوف المسؤولين الاقتصاديين والماليين في حكومات الدول الرأسمالية التقليدية الكبرى من احتمال الانتكاسة هذا، ويطالب الأولون بضرورة الاستمرار في التدخل والدعم حتى لا يتعمق الركود اكثر ويدخل العالم في كساد لا يبقي ولا يذر .

مع تفاقم الازمة المالية العام الماضي خرجت اصوات كثيرة تطالب بضرورة اعادة النظر في القواعد واللوائح المنظمة لعمل الاسواق والمصارف وتشديد الإجراءات الرقابية . وبدا وكأن هناك احتمال استجابة من الحكومات لذلك، لكن سرعان ما خفتت تلك الاصوات وتراجع السياسيون خاصة في الدول التي يعتمد نمو اقتصادها بشكل كبير على الخدمات المالية كأمريكا وبريطانيا تحت مظلة التبرير التقليدي بأن السوق تحتاج إلى حرية كي تعمل واي تشديد للاجراءات سيحد من نموها . وهكذا يبدو أن العالم يستعد للعودة إلى ما كان عليه قبل تفاقم الازمة وكان ما جرى هو حالة عرضية عولجت بتدخل حكومي يمكن ان يتكرر، مع تجاهل ان حالة ما كان عليه تلك هي جذر المشاكل التي تفاقمت على مدى عقود وتحديداً منذ منتصف سبعينات القرن الماضي لتنتهي بقمتها في الأزمة المالية والاقتصادية الحالية .

ولا يقتصر الأمر هنا على الاقتصادات الرأسمالية المتطورة، بل يطال ايضا الاقتصادات الصاعدة والنامية التي تتطور مؤخرا على اساس النموذج الرأسمالي ما بعد الصناعي، والتي وإن كانت لا تزال تشهد نمواً رغم الأزمة فانها عرضة للإصابة الأشد في أي موجة تالية اذا عاد الحال إلى ما كان عليه .

ولتفادي الوصول إلى تلك الحالة والحد من مخاطر التعافي المتوقع يتعين سرعة البحث عن سبل تجاوز النموذج المالي الذي أدى إلى الكارثة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"