فجوة الدخل والديمقراطية

02:41 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. لويس حبيقة

لا يمكن أن تستمر أي ديمقراطية من دون معالجة جدية لمشكلة سوء توزيع الدخل بين المواطنين. مشكلة فجوة الثروة أصعب وأعمق، وحلها يتطلب تغييراً كبيراً في القوانين والأنظمة الضرائبية، إنما تخفيف مشكلة سوء توزع الدخل يبقى في متناول اليد. لا يمكن أن تستمر الديمقراطية إذا لم تعالج مشكلة الفقر الممتدة في شوارع مدن كل الدول الصناعية والنامية. لا يمكن أن تستمر مع أقلية ضئيلة من المواطنين تملك نسبة عالية من الدخل الوطني وأكثرية واضحة تملك جزءاً قليلاً منه. تقول مؤسسة «أوكسفام» إن 85 شخصاً في العالم يملكون ثروات تفوق ما يملك 3,5 مليار شخص فقير. في الولايات المتحدة، تدنت نسبة الطبقات الوسطى من 53% من الشعب إلى 44% خلال العقود القليلة الأخيرة والأمور تسوء. ارتفع دخل ال 1% الأغنى في الولايات المتحدة بنسبة 20% خلال العقود القليلة الماضية، بينما لم يرتفع إلا نسبة 1% لل 99% من الشعب. هذا أحد أهم أسباب غضب المواطنين من العولمة؛ لأنها بالرغم من تحفيزها للنمو الاقتصادي العام، ساهمت إلى حد بعيد في توسيع فجوة الدخل.
يقول الاقتصادي «توماس بيكيتي» في كتابه «رأس المال في القرن ال 21» إن بين سنتي 1914 و1973، كانت نسبة نمو الاقتصاد العالمي أعلى من عائد رأس المال مما سمح للجميع بالاستفادة من النهوض العام فتحسنت أوضاع العمال. سمحت هذه الرأسمالية الصحية للطبقات الوسطى بتملك منزل والحصول على وظيفة مستقرة وآجرٍ كافٍ وعلى حياة استهلاكية محترمة للعائلة مع ضمانات صحية وتعليمية وغيرها. منذ سنة 1973 وحتى اليوم، يحصل العكس، مما يساهم في زيادة فجوة الدخل بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال. أصبح التقدم الاجتماعي والتحسن المادي أصعب بسبب غياب الشفافية في المنافسة وقواعدها.
يقول «جيفري ساكس» إن 5 مليارات مواطن من أصل 7 يُعتبرون فقراء. ويقول «بيكيتي» إن نسبة نمو الثروة هي اليوم أعلى من نسبة نمو الدخل، وهذا واقع في غاية الخطورة، وإذا استمر ستحدث انتفاضات شعبية على المستوى العالمي. في السبعينات كانت نسبة الثروة من الدخل 250% عالمياً، أما اليوم فوصلت إلى 500% مما يشير إلى أسباب ارتفاع نسب المقترعين ضد العولمة والانفتاحين التجاري والمالي. ما هي أسباب هذا الخلل في العلاقة بين الثروة والدخل؟ هنالك سببان مهمان لانخفاض نسبة الدخل في الدول الصناعية ينعكسان بقوة على الاقتصاد العالمي، أولهما انخفاض الإنتاجية العامة وثانيهما انخفاض نسب النمو السكاني. أما حصة الثروة، فارتفعت بسبب عائد رأس المال الذي ازدهر في زمن السلام كما بفضل المضاربات المالية والنقدية والعقارية التي عمت العالم.
مساوئ سوء توزع الدخل هي:
أولاً: ارتفاع فجوة الدخل يؤثر مع الوقت سلباً في النمو؛ إذ يُفقد الطبقات الفقيرة والوسطى الحافز على العمل ويجعلهم يفقدون الحماسة الضرورية للتقدم. كما يؤثر ارتفاع الفجوة سلباً في العدالة الاجتماعية والسلم الأهلي ويمكن أن يُدخل الاقتصاد في دوامة سلبية.
ثانياً: يقول الرئيس الامريكي المنتهية ولايته باراك أوباما إن ارتفاع فجوة الدخل هي أهم مزايا وخصائص العصر الحالي ويجب معالجتها. ويقول البابا فرنسيس إن ارتفاع الفجوة يدل على ظلم الرأسمالية التي تتم ممارستها، أي على قمعها للفقراء ولغير القادرين على مواكبة الجشع والسباق.
ثالثاً: ارتفاع فجوة الدخل كما الثروة يؤدي مع الوقت إلى انخفاض مستوى الاستهلاك الوطني نتيجة الظلم والإحباط وربما اليأس بل القلق.
رابعاً: ارتفاع فجوتي الدخل والثروة لا يشكل فقط كارثة للفقراء وأصحاب الدخل المحدود، إنما يمثل تهديداً للأغنياء يمنعهم عملياً من العيش بسعادة وإنقاق ما يملكون باطمئنان.
خامساً: ارتفاع فجوتي الدخل والثروة يؤدي عملياً إلى زيادة نسبة الفقر والفقراء، أي مشكلات معيشية وعائلية وارتفاع في نسب الجرائم على أنواعها، كما يؤدي إلى الاعتراضات الشعبية التي يمكن أن تكون عنيفة كما يحصل في أعرق الدول الديمقراطية.
ما هي السياسات التي يمكن أن تنفذ لمعالجة مشكلة الفجوة والمحافظة على الديمقراطية والحريات؟ والمطلوب هنا التخفيف من عمق الفجوة وتوسعها حتى يشعر الجميع بالانضمام إلى الإنتاج والبحبوحة وإن بدرجات مختلفة.
أولاً: في بعض الدول، لا بد من زيادة الحد الأدنى للدخل؛ منعاً لقمع العمال من قبل بعض الشركات. حتى الولايات المتحدة تسعى اليوم إلى رفع الحد الأدنى تدريجياً إلى 15 دولاراً في الساعة. هنالك مستوى مدروس للحد الأدنى بحيث لا يؤثر سلباً في البطالة ويسمح للعامل بالعيش بكرامة.
ثانياً: يجب تعديل الأنظمة الضرائبية باتجاه التصاعدية، بحيث من يملك أكثر يدفع نسباً ضرائبية أعلى، وهذا معتمد في أعرق الدول ديمقراطية كالتجمع الاسكندنافي.
ثالثاً: يجب تطبيق القوانين التي تحمي المنافسة وتسمح للشركات الصغيرة والمتوسطة بالتمويل والنهوض ومن ثم المنافسة. هنالك تقصير في معظم الدول النامية والناشئة في هذا الشأن.
رابعاً: مكافحة الجهات الضرائبية التي تسمح لبعض الأغنياء والشركات بتهريب أموالهم من الضرائب، وربما مساهمة البعض في تمويل الإجرام والتهريب وضرب الاستقرار العالمي.
خامساً: مراقبة طريقة وضع أجور ومنافع بعض رؤساء الشركات والصناديق المالية التي تصل سنوياً لملايين الدولارات لكل منهم. فهل يستحقونها؟ خاصة عندما تخسر شركاتهم، وما هي القواعد التي تعتمد لتحديدها. الرقابة مطلوبة من قبل أصحاب الأسهم والمدققين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"