جهود كبرى لمكافحة الفساد

03:47 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. لويس حبيقة

فجأة استفاق العالم على خطورة الفساد بعد أن غض النظر عنه لعقود خلت. استفاقت الحكومات كما منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدولية إلى خطورة الفساد وكأنه أمر جديد وطارئ. لا شك أن الفساد انتشر بسبب التخاذل في محاربته كما بسبب الحاجة المالية التي خلقتها أزمة «الركود الكبير» المستمرة منذ سنة 2008. من ناحية الدول، تعجز الموازنات العامة للدول الرئيسية عن تمويل إنفاقها، وبالتالي تحتاج إلى إيرادات جديدة وكبيرة. من ناحية الأفراد والشركات وبسبب الإفلاسات وسوء الأوضاع، يحاول بعضهم عبر نشاطات غير شرعية التعويض عما خسروه في الأسواق من استثمارات وفرص ومشاريع. الفساد ارتفع وانتشر كما زادت الحاجة لمحاربته للتعويض عن الإيرادات العامة المفقودة. تتوسع النشاطات غير الشرعية بدأ من تهريب الأموال إلى الجنات الضرائبية، إلى التجارة بالمخدرات والأسلحة والسلع المزورة والبشر والأعضاء كما سرقة المعلومات، بالإضافة إلى كافة عمليات تبييض الأموال والإرهاب. السلع المزورة هي في معظمها غربية أي ساعات سويسرية والعديد من سلع الزينة والكماليات التي ترغبها المرأة كما يرغبها رجل اليوم أيضاً.
يضرب الفساد العمليات التجارية والمالية في داخلها عبر التزوير والغش وإعطاء المعلومات الخاطئة والقيام بالعمليات المشبوهة المغطاة قانوناً. أمثلة النشاطات الفاسدة كبيرة وعديدة وها هي أوراق «باناما» تكشف بالوقائع ما لم يدهش العالم، بل أكد صحة وخطورة وانتشار الفساد. تشير العقوبات المالية التي فرضها القضاء على المصارف العالمية إلى انتشار الفساد، وكأن إنقاذ النظام الرأسمالي العالمي يعتمد على وجود هكذا أعمال تؤجل السقوط. في سنة 2014، عوقب مصرف أمريكا بمبلغ 16 مليار دولار وتبعه تشكيلة من المصارف الأمريكية والأوروبية والتي كان يشهد لها بحسن التصرف واحترام حقوق الزبائن والخضوع للقوانين. كانت المفاجأة ليس في وجود أعمال كهذه وإنما في انتشارها وإصابة أفضل المصارف بها كما في غض النظر عنها من قبل إداراتها.
في الأسواق المالية، حصلت جرائم كبرى أودت بالمجرمين إلى السجن دون أن تعالج مشاكل الضحايا. كان هنالك جشع لا مثيل له من قبل عملاء السوق وغباء واضح من قبل الذين وثقوا بهم ربما بدافع الجشع أيضاً. «مادوف» أشهر المجرمين الذي أودع في السجن مع حكم قاس أي 150 سنة لسرقة 17,3 مليار دولار. مجرم آخر هو «ستانفورد» سارق 7 مليارات دولار وحكم عليه بالسجن 110 سنوات. هنالك أمثلة مشابهة في كل المجتمعات. كتب الاقتصادي «كيندلبرغر» أن عدد المجرمين الماليين يرتفع في فترات الازدهار الاقتصادي بسبب الفرص السخية التي تتوافر لهم. لكن عدد المجرمين اليوم يرتفع أيضاً في زمن الركود بسبب رغبة المواطن والشركة في تحقيق الأرباح مهما كانت الوسائل وعلى حساب الأخلاق والأنظمة والقوانين. لا شك أن الجدية في العقاب تخفف من حدوث الإجرام لكن لا تلغيه لأن الغش والجشع موجودان في الظروف الجيدة كما السيئة.
بدأ من الجنات الضرائبية التي استفاقت الحكومات على محاربتها ليس للدفاع عن الأخلاق والنزاهة والنظافة، وإنما لتحصيل إيرادات مالية هربت من الرقابة. يخشى أيضا أن تقوم هذه الأموال بتمويل نشاطات إجرامية تبدأ من الإرهاب وتمتد إلى كافة التجارات الممنوعة. ازدهرت هذه الجنات في النصف الثاني من التسعينات وخاصة ما بعد سنة 2000 وما زالت تنمو. هنالك إحصائيات تشير إلى وجود ما بين 10 آلاف و25 ألف مليار دولار مخبأة في الجنات الضرائبية. 25% من الإيرادات الضرائبية العالمية تهرب إلى هذه الجنات سنوياً. هنالك خسارة سنوية لدول الوحدة الأوروبية تقدر بألف مليار دولار تغادر إلى الجنات المذكورة. تخسر فرنسا وحدها ما بين 60 و80 مليار يورو أو 15% من الإيرادات الضرائبية السنوية. تشير المعلومات إلى أن بعض المصارف الفرنسية يحقق 10% من أعماله في النشاطات المرتبطة بالجنات الضرائبية. فهي نشاطات مربحة لأنها لا تحتاج إلى يد عاملة عديدة. لا شك أن الأرقام تبقى غير دقيقة لأن العالم يتعامل مع منظمات إجرامية مجهزة تقنياً وبشرياً بأفضل المعدات وربما العقول.
لذا في آخر السنة الماضية، وقعت 62 دولة اتفاقية لمحاربة التهرب الضرائبي من قبل الشركات الكبيرة والمتعددة الجنسيات تحديداً. يدخل فيها التعاون للتأكد من صحة الأرقام وبالتالي الوصول إلى معلومات دقيقة عن القيمة وأماكن التوزيع وطرق التهريب. كيف يمكن عملياً مكافحة التهرب الضرائبي؟ جميع الوسائل تفرض تعاوناً كبيراً بين الدول والمؤسسات الرسمية والمصارف، وبالتالي يكون الجهد دولياً أو لا يكون.
أولاً: هل يجب محاربة الجنات الضرائبية مباشرة عبر كل الوسائل والضغوط المتوافرة. هل الجنات مذنبة وهل من واجبها منع قدوم أموال آتية من الدول الغربية؟ هل تكون الجنات الضرائبية مجندة لخدمة موازنات الدول الغربية؟ أو هل تقوم بالدفاع عن مصالحها وحقوق مواطنيها؟ لا تقوم الجنات عموماً بنشاطات جاذبة للأموال، إنما تشكل الملجأ الآمن لها.
ثانياً: لماذا لا ينظر مثلاً إلى أسباب التهرب الضرائبي؟ هل هذا التصرف مزاجي أم له مصادره المالية والاقتصادية والمنطقية؟ ارتفاع النسب الضرائبية في الدول الغربية يدفع بالمواطن إلى تهريب أمواله. لماذا لا تكون محاربة الجنات عبر تخفيف النسب الضرائبية وبالتالي يختفي الدافع للتهريب وتبقى الأموال في الداخل. أليست هي طريقة أسهل وأفعل وأقل تكلفة تؤدي إلى رفع الإيرادات دون مواجهة دول صغيرة معظمها جزر فقيرة تفتقر إلى المواد الأولية والنشاطات الاقتصادية العادية الكافية؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"