مخاوف أمريكا من خسارة الرقم واحد

02:03 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عبد العظيم محمود حنفي

في العام 1979 نشر «إزرا فوجل»، البروفيسور بمدرسة هارفارد للأعمال، كتاباً لقي احتفاءً واسعاً وقتها عنوانه «اليابان كرقم واحد». وبدا من الكتاب وعنوانه الأخاذ أنه يحاول التعامل مع المخاوف الأمريكية أثناء عقدي الصدمة في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي اللذين تخللتهما أعمق دورات الركود التي عرفتها الولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك في أعقاب تعافٍ صاحبه عجز تاريخي (وقتذاك) في كل من الموازنة الاتحادية والميزان التجاري، سواء كأرقام مطلقة أو كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. ونالت التجارة مع اليابان حصة كبيرة من العجز التجاري الأمريكي، وحيث قامت الشركات اليابانية وأصحابها باستخدام مكاسبهم التصديرية في الاستثمار في مصانع جديدة بالولايات المتحدة، وأقدموا في بعض الحالات على شراء أصول عقارية كانت بمثابة غنائم، مثل ملاعب بيتش للجولف، ومركز روكفلر بنيويورك وتخوف كثير من السياسيين والكثير من المواطنين الأمريكيين، من أن تكون اليابان على وشك أن تحل محل أمريكا بوصفها القوة الاقتصادية القائدة عالميا. إن الذين سبقت لهم قراءة كتاب «فوجل» يعرفون الآن بالطبع أن تلك المخاوف لم يكن لها أساس، حسبما أثبتت مجريات الواقع. فبعد عقد واحد من نشر الكتاب، سقطت البورصة اليابانية سقوطا مدويا، بعدما شهدت أسعار الأسهم المتداولة قفزات كبيرة. أما البنوك اليابانية التي توسعت على نحو كبير، مستفيدة من ارتفاع أسعار الأسهم التي بحوزتها، فقد أقرضت كميات هائلة من النقود لمشاريع ومقترضين كثيرين غير قائمين على أسس سليمة، ومن ثم عانت هذه البنوك فعليا من خسائر هي الأسوأ بالنسبة لأي خسائر عرفتها أي منظومة مصرفية. ففي لحظة من عقد التسعينات أصبح مفهوما أنه إذا أعيد تقييم أصول وخصوم البنوك الكبري في هذا البلد وفقا لأسعار السوق، فإنها جميعا ستعاني الإعسار بالمعنى الاقتصادي. وأسهمت الاستجابة البطيئة لأزمة المصارف من جانب القادة السياسيين اليابانيين، في تعميق الهمود الاقتصادي الذي يعرف بعقدي اليابان الضائعين ؛ فقد تزعزعت ثقة المستهلكين والأعمال في اليابان إلى حد أن الحوافز المالية والنقدية الاستثنائية التي طبقتها الحكومة والبنك المركزي الياباني بدت غير قادرة على القيام بدورها. مما عرف بالجمود الياباني.
وبعد سقوط اليابان من عليائها الاقتصادي أواخر الثمانينات، سرعان ما برزت مخاوف مماثلة في بعض الأوساط الأمريكية بشأن التخطيط للتعامل مع التحدي الاقتصادي الذي تمثله أوروبا الغربية ( خاصة بلدان معينة في القارة). فقام ليستر ثارو، عميد مدرسة سلون للإدارة (بمعهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا) بتأليف كتابه الأكثر مبيعا في أوائل التسعينات «رأسا برأس»، الذي تنبأ فيه- ضمن أشياء أخرى - بأن اقتصادات أوروبا الغربية، المدعومة بتوسيع وازدياد قوة الاتحاد الأوروبي، وترجيح إصدار عملة أوروبية موحدة، يمكن أن تتجاوز الولايات المتحدة في الأمد المنظور. وفي الحقيقة أصبحت العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) واقعا في العام 2002، كما اتسعت عضوية الاتحاد الأوروبي ذاته من 15 عضوا في البداية إلى 28 عضوا، ومع هذا فإن التهديد الاقتصادي من جانب اقتصادات القارة لم يتجسد قط. وكان من المتوقع نظريا أن يؤدي الاندماج الوثيق للاتحاد الأوروبي ( بخاصة انسجام القواعد الوطنية المختلفة بما يمكن من حرية حركة السلع والخدمات عبر الحدود داخل الاتحاد الأوروبي) إلى بدء قفزة كبيرة للنمو الأوروبي وأنه مع اعتماد اليورو كان من المنتظر أن يؤدي إلى التيسير على الشركات والمستهلكين في أنحاء أوروبا المختلفة لممارسة التجارة فيما بينهم وتمكين الشركات الأوروبية من الاستفادة من وفورات الحجم الكبير، ومن ثم بلوغ مستوى أفضل للمنافسة على الساحة العالمية وباجتماع كل تلك العوامل سيتسارع النمو، لكن الاتحاد الأوروبي مر بفترات ليست بالقصيرة من تباطؤ النمو والبطالة المرتفعة، مما يسميه بعض المحللين ب «التيبس الأوروبي». ما تعاني الحالة الأوروبية من مشاكل بنيوية يحاول الأوروبيون إصلاحها. ثم سرعان ما برزت مخاوف مماثلة في بعض الأوساط الأمريكية بشأن التخطيط للتعامل مع التحدي الاقتصادي الذي تمثله الصين، وترى بعض الدراسات الأمريكية أنه مهما كانت مشاعر التوجس والارتباك التي تستبد بالأمريكيين، فإن فقدان لقب أكبر اقتصاد في العالم، لن يؤثر كثيراً على جودة الحياة التي يعيشها الأمريكيون.ولكن تلك الرؤية لا تراها النخبة الأمريكية وفق تعبير عضو بارز في مجلس الشيوخ الأمريكي «نحن نخوض منافسة جيوسياسية ليس مع دولة زراعية فقيرة تحاول اللحاق بنا بل مع قوة عظمى تحاول اعتراض طريقنا بشكل غير منصف وبهدف أن تحل محلنا لتصبح الدولة الأقوى عسكرياً واقتصادياً وجيوسياسياً وتقنياً في العالم».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"