القرارات الشجاعة في ظروف صعبة

02:19 صباحا
قراءة 5 دقائق
بقلم الدكتور لويس حبيقة

أسس «شيرشيل» مراكز للعمل عالج فيها موضوع البطالة، وكان أول من أدخل حق التأمين الوظيفي، وقال مراراً إن سوء توزيع الدخل في المجتمع يخلق مشاكل بين الطبقات الاجتماعية، ويؤدي إلى عدم الاستقرار.
هنالك محاولات عديدة لتحسين الأداء الاجتماعي والاقتصادي في دول المنطقة. هنالك شعور عام من قبل القيادات والمواطنين يشير إلى أن النتائج الاقتصادية والاجتماعية المحققة في المنطقة غير مرضية، حتى في الظروف العامة الصعبة، وبالتالي يجب تحسين الأداء في القطاعين العام والخاص، وتطوير طرق التواصل بين الدول. من رؤية 2030 السعودية، إلى مشاريع مماثلة في مختلف الدول الخليجية ودول المنطقة عموماً، تسعى الحكومات إلى تحسين الأداء ضمن التحديات الداخلية والعالمية المتوافرة. تبعاً لصندوق النقد الدولي، هنالك حقائق تقيد دول المنطقة أهمها البطالة، وسوء توزيع الدخل، وتفشي الفقر بين الشباب، وغياب الحريات. كما أن الحروب مستمرة في سوريا واليمن وغيرهما، ومن يمكنه التكلم عن تنمية في ظروف حرب؟. النمو الإقليمي متعثر نسبياً، بالرغم من تحسن الاقتصاد الدولي وتوقع نموه 3.9% هذه السنة. من المتوقع أن تنمو الدول المصدرة للنفط في المنطقة هذه السنة حوالي 2.8%، بينما تنمو الدول المستوردة 4.7%. إنجازات غير كافية.
لا ننكر أن الديمقراطية لم تترسخ بعد في دولنا العربية، ربما بسبب الخلافات الموجودة في السياسة والمصالح الإقليمية والدولية. لا يمكن للديمقراطية إلّا أن تبنى على قناعة الشعوب ومطالبتهم بها لهدف الاستقرار والنمو والتنمية. لا تدوم التنمية وتتوسع بل لا تتشعب من دون ديمقراطية تحترمها وتحافظ عليها. لم تصبح الديمقراطية البريطانية والفرنسية على ما هي عليه اليوم بشكل مفاجئ، بل أتت نتيجة التجارب والعوائق التي تمت مواجهتها مع حصول إخفاقات سببت التحسن. ليست هنالك ديمقراطية صحيحة من دون تكلفة تحدد الممارسة وطرق فض النزاعات. الصراعات التي نشهدها اليوم في فرنسا وأرمينيا وغيرها تشير إلى أن الشعوب غير راضية، حتى لو كانت الإصلاحات محقّة. هنالك طرق لتمرير أو تسويق الإصلاحات لم تحترم على ما يبدو في العديد من الحالات.
من طبيعة الإنسان الرغبة في السيطرة والقوة والجشع؛ لذا وضعت قوانين تحدّ من هذه الرغبات، وتعاقب من لا يحترمها. قال «وينستون شيرشيل»، إن الديمقراطية هي نظام سيّئ، لكنه أفضل من كل البدائل. حافظ «شيرشيل» على الديمقراطية البريطانية في أسوأ ظروف الحرب، بينما غرقت ألمانيا وفرنسا وغيرها تحت ديكتاتوريات قاسية، أوقعت الخسائر والدمار في كل أوروبا وخارجها. لماذا نجح «شيرشيل» وفشل غيره؟ لماذا استمرت الديمقراطية في بريطانيا في أسوأ الظروف؟ بريطانيا لم تحتل منذ عقود وبقيت حرة، بينما دمرت دول أخرى في أوروبا. كما أن المؤسسات البريطانية لها جذور أعمق وأقدم، وبالتالي بقيت واقفة ضمن الأزمات. كما أن الحكومات البريطانية المتعاقبة منذ عقود عالجت المشاكل الاجتماعية ولم تهملها كما حصل في دول أخرى. تحترم الحكومة البريطانية اليوم خيار «البريكسيت»، حتى لو لم تكن على ما يظهر مقتنعة به، لكنه كان خيار الشعب حتى بأقلية ضئيلة.
لا يمكن لديمقراطية أن تستمر من دون قيادات حكيمة تؤمن بها وتحافظ عليها. لا شك أن تعلق الشعوب بالحريات يؤسس لوجود ديمقراطيات متنوعة. ليس هنالك شكل واحد للديمقراطية إذ تبنى على الثقافة والتاريخ والتقاليد والممارسة. لا يمكن مقارنة الديمقراطية الأمريكية بالروسية مثلاً. هنالك أشكال مختلفة جداً للديمقراطيات الأوروبية، بين الفرنسية والبريطانية والإسكندينافية. أهمية الديمقراطيات هو احترامها لأفكار المواطن، وبالتالي تؤدي على المدى البعيد إلى بحبوحة اقتصادية واضحة. لا ننكر أن الصين حققت النجاح عبر نظام سياسي شيوعي ارتكز على رأسمالية اقتصادية، لكن إذا خيرنا المواطن العربي مثلاً بين العيش في نظام صيني، أو في نظام فرنسي مثلاً، نستطيع أن نتوقع النتيجة سلفاً.
القيادات الحكيمة هي التي تتمتع بالتواضع والأذن السليمة لسماع النصيحة. الغرور قاتل للإنسان، وخاصة للقيادات السياسية. الثقة بالنفس مهمة وتؤدي إلى الفوز والتحسن، لكن الثقة المتزايدة بالنفس تصبح غروراً وتؤدي إلى الأخطاء العملية الكبيرة. لا يمكن للمريض أن يتجاهل أسباب مرضه، بل عليه مواجهة المرض والمعالجة. من هي قيادات اليوم في قطاعي الأعمال والدولة التي يمكن وصفها بالحكيمة؟ هل هي عديدة في الشركات والمؤسسات والحكومات؟ هل ينتج مجتمع اليوم قيادات واعية حكيمة تؤسس للمستقبل؟ الاقتصاد الجيد يبنى على أفكار واعدة، ورؤية ذكية، وتنفيذ نزيه وفاعل وسريع للأفكار.
لا شك أن هنالك قيادات حكيمة أنقذت دولها في عز الأزمات. قال «شيرشيل» إن اتخاذ القرارات الصعبة ضروري، ولا يمكن ربح حرب أو الانتصار على التحديات السياسية والاجتماعية، من دون اتخاذ قرارات في التوقيت الصحيح. القيادات الحكيمة هي التي تعتمد خطاباً واضحاً مفهوماً للشعوب. في ظروف الحرب، احترم شيرشيل حق الإضراب والتظاهر، وبالتالي عالج المطالب بحكمة. اهتم بالفقراء وكان من أول الواضعين لأسس «دولة الرفاهية»، التي طبقت لاحقاً في العديد من الدول الغربية.
أسس «شيرشيل» مراكز للعمل؛ بحيث عالج موضوع البطالة، وكان أول من أدخل حق التأمين الوظيفي. قال مراراً إن سوء توزيع الدخل في المجتمع يخلق مشاكل بين الطبقات الاجتماعية، ويؤدي إلى عدم الاستقرار. كان يشعر مع الفقراء بالرغم من أنه كان ميسوراً، وقاد حزب المحافظين لسنوات. لم يكن يؤيد الإنفاق الكبير على التسلح والدفاع، بل فضل الإنفاق الاجتماعي. لم يكن عقائدياً بل عملياً، أي يعالج المشاكل عندما تأتي بأقل تكلفة وأسرع طريقة. آمن بالتجارة الحرة وبالنظام الرأسمالي الإنساني المتطور وليس الجشع. كان واعياً لمساوئ اتفاقية «فيرساي»، التي أنهت الحرب العالمية الأولى، وكانت جائرة وقاسية بحق ألمانيا الخاسرة، وبالتالي توقع حدوث حرب انتقامية أتت في الأربعينات. لم تكن الولايات المتحدة لتدخل الحرب العالمية الثانية، في رأي «بوريس جونسون»، وزير الخارجية الحالي، لولا قيادة «شيرشيل» لبريطانيا.
هنالك فارق كبير بين «شيرشيل» و «رونالد ريجان»، وهو أن الأول كان يعمل كثيراً، بينما العكس كان مع الثاني الذي اعتمد مبادئ وشعارات عامة أكثر من اهتمامه بالتفاصيل. قال الرئيس الأمريكي يوماً، «إن العمل الكثير لا يؤذي، لكن ما الضرورة للمخاطرة؟». كتب «شيرشيل» 31 كتاباً، ونشر خطاباته في 18 كتاباً في 8700 صفحة. له طرق في الإلقاء جاذبة، حتى لو لم يقتنع السامع بأفكاره. قال يوماً: «إن السياسي هو الذي يحاول تنبؤ المستقبل، وتكون له القدرة على تفسير عدم تحقق توقعاته». كان مضرب مثل في النزاهة والتهذيب وحسن الأداء في ظروف صعبة. لم يتخذ قراراته إلا بعد ساعات من البحث والاستشارات والمشاورات. اعتمدت قراراته على المعلومات الكافية الواضحة. كان ل«شيرشيل» 3 قناعات لم يحد عنها، وهي الحفاظ على الملكية البريطانية، والنظام الديمقراطي، كما تفعيل دور السياسات الداخلية والخارجية.
في زمن «شيرشيل» انخفضت نسبة الفقر، ارتفع دور المرأة في المجتمع، تحسن وضع التعليم خاصة الجامعي، تأسس النظام الصحي العام، وتأسست دولة الرفاهية الفاعلة. ظروف الحرب ربما منعته من حسن الأداء في السياسة الخارجية، خاصة فيما يتعلق بمنطقتنا والصراعات الكبيرة. مقارنة قيادات اليوم بالماضي صعبة، وربما لا تدعو للتفاؤل. مقارنة ترامب ب«شيرشيل» مثلاً ربما تحصد الإجماع حول الأذكى والأفعل وصاحب الرؤية الجيدة. أفكار ترامب بشأن التجارة الدولية والعلاقات مع الجوار والأوضاع في المنطقة العربية كانت ستعالج على الأرجح بطرق مختلفة من قبل «شيرشيل». هل المقارنة جائرة بينهما كما بين ديجول وماكرون مثلاً أو في محلها؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"