لن ننسى مشكلتي العجز والدين

02:02 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. لويس حبيقة

العالم منشغل في أمور كثيرة وكبرى تهدد النظام الاقتصادي العالمي، وبالتالي نسي أو تناست حكوماته مشكلتي العجز المالي والدين العام. قال «ألكساندر هاملتون» أحد مؤسسي الولايات المتحدة أن الدين العام المعقول هو نعمة وليس نقمة، والعكس صحيح طبعا. لم يحدد هاملتون حجم الدين العام الذي يقبله، لكنه حتما لم يكن ليقبل بنسبة دين عام توازي 105% من الناتج الأمريكي أو 60 ألف دولار لكل أمريكي. هذا هو الدين الأكبر في العالم، لكن النسبة حتما ليست الأعلى من الناتج حيث تتفوق اليابان مثلا مع 250% على معظم الدول. هنالك مشكلة يجب أن تعالج ليس فقط على المستوى الأمريكي، وإنما على العالمي أيضا. منطقة اليورو كمجموعة ليست أفضل من هذه الناحية وتعاني عجزاً وديناً. تكمن مشكلتا العجز والدين في خطورتهما التي تتعدى الموضوع المالي لتصل إلى الإدارة والقضاء والإنتاجية والسياسة، وبالتالي حلهما معقد ويتطلب ذهنية مختلفة تعجز معظم الحكومات عن اعتمادها.
هنالك تحول كبير حصل في الولايات المتحدة بدأ من سنة 2002. أنهى كلينتون عهديه في سنة 2000 مع فائض في الموازنة واستمر هذا الواقع في السنتين الأوليين من عهد بوش وحصل عجز قدره 3,5% في سنة 2003. ماذا حصل وكيف يفسر هذا التحول الكبير في دولة معروفة بفعالية مؤسساتها؟
أولاً: سقطت الأسواق المالية بدءاً من سنة 2000 خاصة شركات التكنولوجيا وبورصاتها «نازداك»، مما سبب سقوطاً في إيرادات المالية العامة.
ثانياً: حصل ركود عام في الاقتصاد الأمريكي أي انخفاض في أرباح الشركات والدخل العام وبالتالي في الإيرادات الضرائبية. كما خفضت إدارة بوش الضرائب على الأغنياء كي يستثمروا لكنهم لم يفعلوا. نضيف إلى ذلك ارتفاع الإنفاق العسكري بسبب الحرب في العراق التي كلفت أكثر بكثير من التوقعات، وبالتالي ساهمت في انهيار الدول وحكومات المنطقة دون أن نصل حتى اليوم إلى استقرار بالمعنى الحقيقي للكلمة. لا شك أن الإنفاق غير العسكري وخاصة الصحي ارتفع كثيرا بسبب الهدر وسوء الممارسة من قبل الجميع. لم يستطع المجتمع الأمريكي حتى اليوم إيجاد حل للإنفاق الصحي الأعلى في العالم.
في بداية عهدي أوباما، ارتفع العجز بسبب الضخ المالي الذي أقر لتحفيز الاقتصاد مع بداية «الركود الكبير» في سنة 2008. مع بداية النهوض الاقتصادي وتواصل النمو وإن يكن متواضعاً، انخفض العجز السنوي لكن مشكلة الدين ما زالت قائمة بسبب الحاجة إلى الإنفاق وصعوبة زيادة الضرائب في ظروف متقلبة كالتي يعيش فيها المجتمع الأمريكي. يقول الاقتصادي «لافير» إن رفع النسب الضرائبية خاصة في ظروف ضيقة يؤدي إلى انخفاض الإيرادات الضرائبية بسبب زيادة التهرب الضرائبي. يجب أن نعلم أن أكبر مستثمر في سندات الخزينة الأمريكية هي الصين وثم اليابان وتليهما مجموعة الدول المصدرة للنفط.
تعاني دول مجلس التعاون الخليجي اليوم عجزاً مالياً بسبب انخفاض أسعار النفط، فتقوم بالاستدانة من الأسواق المالية. الموضوع يهم الجميع دون أن يعني ذلك أن العجز دائما سيىء وأن الدين العام كارثة، بل العكس يمكن أن يكون صحيحا. لبنان في عجز مالي ودين عام متفاقم منذ عقود، ولا نملك الحل اليوم لأن الظروف الحالية صعبة وتتطلب تماسك المجتمع بالإضافة إلى الحاجة للإنفاق في الداخل على الجميع. ما أهم مبررات وفوائد حصول العجز وبالتالي تراكم الدين العام؟ العجز ليس قضاء وقدر، فهو خيار حكومة ومجتمع يسعيان للاستثمار في المستقبل وإشراك المصارف والمواطن به؟
أولاً: أهمية تمويل المشاريع الضرورية للمجتمع والاقتصاد والتي لها عائد مالي واقتصادي واجتماعي إيجابي. الاقتراض أو الإنفاق لتمويل مشاريع كهذه مقبول بل مرغوب به لأن العائد على المدى البعيد سيكون حتماً مفيداً للمجتمع. من هذه المشاريع نضع البنية التحتية والمدارس والمستشفيات التي تكلف على المدى القصير لكنها حيوية على المدى البعيد.
ثانياً: الاستقرار العام الذي ينتج عن إقامة مشاريع تطمئن المواطن إلى مستقبله. الاقتراض والتسديد على سنوات عدة يريح المجتمع وبالتالي يستفيد من الاستثمارات دون أن يرهق نفسه بالضرائب والتعريفات المرتفعة. نعلم جيداً أن الاستقرار الاقتصادي يجلب الاستقرار السياسي الضروري للاستقرارين الأمني والاجتماعي. الإنفاق للوصول إلى الاستقرار وتعزيزه هو جيد بل يدعم تماسك المجتمع ضمن وجهات النظر التي يمكن أن تختلف من حين إلى آخر.
ثالثا: طريقة التمويل مهمة جدا منها إصدار سندات خزانة في الأسواق المالية يستفيد المواطن وخاصة المتقاعدين من عائدها. هكذا يشعر المواطن أيضا أنه يمول مستقبل اقتصاده والأجيال المقبلة. شفافية وسيولة الأسواق المالية مهمة كي يستطيع المواطن تداول هذه السندات عندما يرغب بذلك. لا شك أن الأسواق المالية الأمريكية والغربية تتمتع بهاتين الصفتين التي لا بد من تطويرهما خليجياً مع الحاجة المستجدة لذلك.
ما المبررات المعاكسة التي تفرض على الدول أن تكون حذرة من تفاقم الدين الذي يجب تسديده عاجلا أم آجلا، وإلا حصل المحظور أي الإفلاس وسقوط الثقة وانهيار النقد بالإضافة إلى استحالة إيجاد مقرضين جدد؟ ما زال العديد من دول أمريكا اللاتينية كالأرجنتين والبرازيل وفينزويلا يعاني السياسات الخطرة التي مورست خلال عقود ويدفع ثمنها مواطن اليوم. مقاطعة «بورتو ريكو» هي في وضع خطر بالرغم من وجودها سيادياً في الولايات المتحدة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"