الانعطافة في علاقات الرياض بواشنطن

04:58 صباحا
قراءة 4 دقائق

الهزة التي أصابت العلاقات السعودية - الأمريكية خلال الأسابيع القليلة الماضية، ليست الأولى من نوعها بين الجانبين، فعقب أحداث سبتمبر/ أيلول 2001 تعرضت الرياض لهجمة شرسة من الإعلام الأمريكي ومن دوائر النفوذ في واشنطن من الكونغرس إلى اللوبي الصهيوني، على خلفية وجود عناصر سعودية بين المتهمين بتلك الأحداث . وقد واكب رئيس الاستخبارات السعودية الأمير بندر بن سلطان تلك الحملة إبان توليه منصب سفير بلاده في واشنطن آنذاك، وعمل من جانبه على التصدي لتلك الحملة وإعادة العلاقات إلى سكتها .

قبل ذلك وبعده قلما مرت صفقة تسليح أمريكي للسعودية، من دون ان تنطلق حملات في واشنطن تدعو لوقف الصفقة بذرائع شتى من بينها رفض الرياض لأي تطبيع مع الدولة العبرية . وها هي عجلة الأيام تدور ويتولى الأمير بندر بنفسه الاعلان عن عزم بلاده تقليص مستوى العلاقات مع واشنطن . وهو إعلان غير مسبوق لجهة وضوحه ومضمونه، والذي يعني بدء التخلي عن علاقة استراتيجية تعود لنحو ثمانين عاماً مع الدولة العظمى . وهو ما أصاب الدوائر الأمريكية بصدمة ملحوظة، برزت معها التحذيرات من الانعكاسات السلبية لتراجع العلاقات على الأمن القومي الأمريكي، والمقصود هنا بالدرجة الأولى استيراد النفط من أكبر دولة منتجة للطاقة في العالم، ومنظومة التسلح بأسلحة أمريكية، والاستثمارات السعودية الهائلة، علاوة على انعكاس ذلك على الوجود الأمريكي في المنطقة، ومستوى العلاقات مع هذه الدول . ومن الملاحظ هنا أن رفض السعودية لتسميتها عضواً غير دائم في مجلس الأمن، قد تزامن مع الانحدار في منسوب العلاقات بين الجانبين، وبدا هذا القرار موجّهاً إلى الإدارة الأمريكية بالدرجة الأولى وليس إلى المنظمة الدولية، وهو موقف لاقى قبولاً من دول مجلس التعاون الخليجي . وهو ما يعني أن التواصل حتى تحت مظلة الأمم المتحدة بات متعسراً بين الجانبين .

من المفارقات ان يتم ذلك مع بدء التعايش بين واشنطن وطهران، بين الشيطان الأكبر ومحور الشر في المنطقة . وبينما حافظت الرياض على وتيرة علاقاتها الدبلوماسية مع طهران وشجعت على حوار أمريكي - ايراني، ورفضت تصعيد الخلاف حول الملف النووي الإيراني إلى مستوى المواجهة، وذلك طيلة فترة العداء الإيراني - الأمريكي، فإن الرياض تفاجأ الآن بآفاق مفتوحة للعلاقات بين خصمي الأمس، مع تغييبها عن صورة ما يجري . وهو في أساس الموقف السعودي الجديد، إضافة إلى التحفظات السعودية على طريقة معالجة واشنطن للملف الكيماوي السوري والأزمة السورية برمتها، والتحفظات الأخرى المتعلقة بالموقف الأمريكي من تطورات القضية الفلسطينية، بعد إطلاق ادارة أوباما وعوداً بلا طائل وبلا ترجمة على الأرض لحل هذه القضية .

من المبكر الحديث عن تفاعلات هذه الانعطافة، غير أن أمراً جديداً ونوعياً قد حدث في مسار العلاقات بين الجانبين، وسوف تستمر بطبيعة الحال هذه العلاقات على مستويات عدة تسليحية واقتصادية، لكن ما كان يبدو على مدى عقود تفاهماً استراتيجياً ضمنياً وفعلياً، قد تعرض لما هو أكثر من الاهتزاز . . إلى العزم على تقليص العلاقات من طرف الرياض التي رأت أن واشنطن قد قلصت عملياً من مساحة التفاهم الاستراتيجي معها، فكان لا بد من اتخاذ خطوة مقابلة وعلنية لوضع الأمور في نصابها، وهذا ما كان . ويصعب الآن تصور أن تعود العلاقات إلى سابق عهدها، قبل أن تزول الأسباب التي أدت إلى هذه الانعطافة .

ما حدث بين الرياض وواشنطن يعيد إلى الأذهان السابقة التركية، كنموذج لتقلبات العلاقات بين الحلفاء والشركاء . فعلى مدى العقد الأول من هذه الألفية وقع تباين ملحوظ بين أنقرة وواشنطن على خلفية الموقف من اجتياح العراق في العام 2003 حيث رفضت أنقرة الانضمام إلى الحملة العسكرية، وتبع ذلك تقليص التعاون العسكري بين أنقرة وتل أبيب، واتبعت أنقرة سياسة مستقلة نسبياً عن واشنطن في التعامل مع ملف القضية الفلسطينية، وفي العلاقات مع إيران في عهد بوش الابن . وإذ تختلف الآن أوجه التباين الناشىء بين الرياض وواشنطن عن تلك التي حكمت الفتور التركي - الأمريكي، إلا أن وجهة الانفكاك عن التماثل الاستراتيجي مع واشنطن، تبدو متشابهة لدى كل من أنقرة والرياض اللتين يجمعهما الاعتدال الإسلامي . ومن الملاحظ أن أنقرة رغم أية ملاحظات على سياستها في عهد حزب التنمية والعدالة منذ العام ،2002 قد نجحت لدى رسم وتنفيذ سياساتها الإقليمية في الاستقلال النسبي عن السياسات الأمريكية، بعد عقود طويلة من التماثل الاستراتيجي بين أنقرة وواشنطن التي تكيفت في النتيجة مع هذا الأمر، وأخذت تحسب حساباً له .

واشنطن التي اعتادت على التفاهم الاستراتيجي مع الرياض وعلى علاقات وثيقة معها، سوف تكون مدعوة للتعامل مع واقع جديد يرتسم في الأفق، مفاده أن الرياض تقف على مسافة منها، وأنها تضع مصالحها الوطنية والإقليمية في الاعتبار الأول، متمتعة في ذلك بدعم خليجي وإسلامي واسع النطاق، وبحرية حركة نحو المراكز الدولية، في حين تبدو واشنطن على وشك خسارة حلفاء موثوقين قدامى، دون أن تضمن كسب أصدقاء جدد، أو تحييد من خاصمتهم طويلاً .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"