فرنسا.. تاريخ عالمي جديد

دولة في حالة تغيير مستمر
03:57 صباحا
قراءة 7 دقائق

عن المؤلف

تحرير وإعداد: باتريك بوشيرون

عرض وترجمة: نضال إبراهيم

يبدو أن التاريخ، بخيباته وأمجاده، بحلوه ومره، يلعب دوراً كبيراً في المشهد السياسي الفرنسي؛ حيث يلجأ السياسيون والمفكرون المسيسون إلى استقطاب الجماهير الفرنسية في الحملات الانتخابية بناء على روايات سابقة، لكن يجد هذا الكتاب أن لها سياقاً آخر، ويحاول أن يقدم رواية مختلفة ليس عبر الإضافة أو التحليل فقط بل الحذف أحياناً، بأقلام 122 أكاديمياً من الوجوه الجديدة.

يقدم هذا العمل طريقة جديدة لكتابة التاريخ الوطني والعالمي، بهدف تطوير فهمنا لفرنسا في العالم من خلال مقالات استفزازية قصيرة تتراوح من اللوحات الجدارية التي تعود إلى ما قبل التاريخ إلى كوكو شانيل إلى الهجمات الإرهابية في عام 2015.

ويأتي كل فصل وفقاً لترتيب زمني من العام 34.000 قبل الميلاد إلى العام 2015، ويجمع بين الصرامة الفكرية للعمل الأكاديمي، وبين حيوية وقراءة التاريخ الشعبي.

قام باتريك بوشيرون، المتخصص الفرنسي في تاريخ إيطاليا في العصور الوسطى، بتنظيم هذا المشروع بعد الهجمات الإرهابية في نوفمبر 2015 في باريس، والتي هزت البلاد التي مزقتها بالفعل كراهية الأجانب ومعاداة السامية والأحداث ذات الصلة. في خضم الاضطراب الذي وقع قبل أربع سنوات، دعا المرشحون اليمينيون للرئاسة الفرنسية إلى العودة إلى الإحساس بالهوية الوطنية من خلال منهج تعليمي يعكس فرنسا المنعزلة.

وإثر ذلك، طلب بوشيرون من عشرات المؤرخين العاملين في المؤسسات النخبوية في باريس إنتاج مقالات مختصرة مرتبة ترتيباً زمنياً.

ويصوّر هذا الكتاب «فرنسا ليس ككيان ثابت ذي جذور، ولكن بدلاً من ذلك كمكان وفكرة في حالة تغير مستمر، متجاوزاً كل الحدود». لذلك يتم تقديم التفاعلات الحاصلة داخل الدولة نفسها وخارجها، كما هو الحال عندما يظهر سفراء بلاد فارس أو سيام (اسم تايلند سابقاً) في حفل استقبال ملكي فرنسي، أو عندما تم إطاحة الرئيس التشيلي سلفادور أليندي، بطل الجناح اليساري، في عام 1973؛ حيث يتم تسليط الضوء على الجميع كجزء من تاريخ الأمة.

ويهدف الكتاب إلى أن يكون بمثابة رد فعل على فكرة وجود نسخة واحدة من التاريخ الفرنسي، ويتعلق بفرنسا المعزولة.

إعادة كتابة التاريخ

من خلال العمل المشترك الذي كتبه 122 أكاديمياً وحرّره باللغة الفرنسية باتريك بوشرون، وستيفان غيرسون بالإنجليزية، بدا أنه لم يكن مخصصاً لقوائم أفضل الكتب مبيعاً عندما تم نشره، لكن الفرنسيين تعاملوا معه برؤية أخرى، فقد بيع منه في أقل من شهرين أكثر من 70 ألف نسخة، وما زالت المبيعات قوية، حتى دفع البعض إلى القول إنه بعد عقود عدة من النعاس، أصبح التاريخ الأكاديمي يحقق نجاحاً كبيراً.

وعلى الرغم من أن الكتاب يدين بالكثير من نجاحه لموهبة مؤلفيه، إلا أن نشره كان مناسباً تماماً لإحداث تأثير كبير خلال الحملة الانتخابية. فقد كان التاريخ دائماً ساحة معركة في فرنسا. كما علق عليه إريك زمور، الصحفي والمؤرخ اليميني، في مراجعة غاضبة في صحيفة «لو فيغارو» «التاريخ هو الحرب. ليس فقط تاريخ الحرب ولكن حرب التاريخ».

واستمر في إدانة هذا العمل باعتباره هجوماً على هوية فرنسا ومحاولة لتدمير «الرواية الوطنية» في قلب ما يعنيه أن تكون فرنسياً.

كما توقف ألان فينكيلكروت، الفيلسوف المحافظ وعضو الأكاديمية الفرنسية، عند الكتاب في مراجعة عنيفة قائلاً: «مؤلفو هذا الكتاب هم نباشو القبور في التراث الفرنسي العظيم». وقد ردد معلقون آخرون من اليمين الكلام نفسه، فقد كتب مايكل جوبلو، المدون الذي كان يدعم المرشح الرئاسي المحافظ فرانسوا فيلون: «عندما تدفن مؤسسة كوليج دو فرانس الأكاديمية فرنسا والفرنسية، من الضروري أن يستولي الناس على السلطة ضد أولئك الذين يُدفع لهم لتدمير بلادنا، تاريخها، تراثها وثقافتها!»

عندما أطلق فيلون حملته الرئاسية، أعلن أنه سيغير طريقة تدريس التاريخ في المدارس الابتدائية قائلاً: «إذا انتُخبت رئيساً للجمهورية، فسأطلب من ثلاثة أكاديميين التماس أفضل نصيحة من أجل إعادة كتابة برامج التاريخ حول فكرة قصة وطنية. ووصف نظرته إلى ماضي فرنسا بأنه تاريخ مصنوع من الرجال والنساء، والرموز، والأماكن، والمعالم، والأحداث التي تستمد معناها وأهميتها من البناء التقدمي للحضارة الفرنسية المتميزة».

على يمين فيون، أصرت مارين لوبان، مرشحة الجبهة الوطنية، على ضرورة «إعادة تعلم تاريخ فرنسا- كل تاريخ فرنسا، الأكثر إيجابية والأكثر شهرة- حتى يكون كل فرنسي ملماً بتاريخه وفخوراً به»، وأوضحت أن هذا يعني في الواقع العملي حذف الإشارات في مستوى المدارس الابتدائية إلى الحرب العالمية الثانية والاستعمار.

كان ينظر إلى نشر هذا الكتاب في ذروة الحملة الرئاسية من قبل اليمين على أنه استفزاز، وجعلته الهجمات بمثابة شيء من الفضائح. في حين تعاملت معه الصحف اليسارية مثل «ليبراسيون» و«لوموند» بإيجابية، ورحبت به كجهد من قِبل المؤرخين الأكاديميين للوصول إلى عامة الناس بهدف رؤية التاريخ الفرنسي الذي يأخذ في الاعتبار النقاش المعاصر حول آثار العولمة.

ما يجعل هذا الكتاب عالمياً هو اتخاذه مساراً على النقيض من التاريخ الدارج؛ حيث يركز على العناصر غير الفرنسية التي لطالما تشبعت بها الحياة الفرنسية، والتي تأتي من جميع أنحاء العالم. هناك إشارات إلى تدوينات، على سبيل المثال، في أول ترجمة للقرآن إلى اللاتينية عام 1143 تحت حكم بيير لو فينيبل. والحصول على الأطلس الكاتالون من قبل المكتبة الملكية لشارل الخامس في عام 1380؛ واستقبال السفارة الفارسية لويس الرابع عشر في فرساي في عام 1715.

فكرة الهوية الفرنسية

يرفض الكتاب فكرة الهوية الفرنسية التي كانت موجودة من ناحية الارتباط بلازمة «أسلافنا الغال»- والتي تم صقلها على مر القرون لتشكيل حضارة متميزة وغنية بشكل خاص.

«الهوية» مصطلح مفضل عند الجانب المحافظ من السياسة الفرنسية. فمثلاً نيكولا ساركوزي، أنشأ وزارة شؤون الهجرة والاندماج والهوية الوطنية والتنمية المتضافرة بعد فترة وجيزة من انتخابه رئيساً عام 2007. وعندما يستحضر السياسيون «الهوية الوطنية» في الحملة الرئاسية اليوم، فإنهم يلعبون على المخاوف بشأن الإرهابيين والهجرة والتأثيرات الأجنبية في البلاد بشكل عام حتى في حالة مارين لوبان، الخوف من تدمير «الفرنسة» الأساسية من خلال المشاركة في الاتحاد الأوروبي.

بصرف النظر عن أهميته كشكل من أشكال الخطاب السياسي الحالي، فإن هذا الكتاب يستحق أن يُنظر إليه في حد ذاته على أنه محاولة جديدة لتغيير كيفية فهم التاريخ الفرنسي. على الرغم من أنه كتب بواسطة مؤلفين أكاديميين ويتسم بالكثير من التفاصيل الباطنية، إلا أنه يستهدف الجمهور العام. ويتكون من 146 فصلاً، طول كل فصل يتراوح من أربع إلى خمس صفحات، وكل منه وفق ترتيب زمني. على العموم، تتداخل المواضيع وتتقاطع في كل مكان، ولكن الأمر متروك للقارئ للجمع بينها.

يمكن للقارئ قراءة هذا الكتاب عبر صفحاته الثمانمئة، بأن يأخذ الكتاب في أي مكان ويقرأ المحتوى، فعلى سبيل المثال، يبدأ الفصل المتعلق بشانيل رقم 5 - وهو موضوع غير مرجح للتاريخ العالمي - بمختبر غابرييل شانيل في عام 1921 ثم يقود إلى مارلين مونرو وآندي وارهول، والثقافة الشعبية الأمريكية من الخمسينات إلى الثمانينات.

مؤرخون جدد

الفصول في هذا العمل مكتوبة بطريقة يمكن أن يتمتع بها أي شخص لديه معرفة سطحية فقط بالتاريخ الفرنسي. بعيداً عن الانغماس في المصطلحات الأكاديمية؛ حيث يعبر المؤلفون عن الحماس لموضوعاتهم. خاصة أن معظمهم من الشباب.

في الواقع، يمثل هذا الكتاب وصول جيل جديد من المؤرخين المتحمسين المفعمين بالحيوية.

ويمكن للقارئ متابعة الموضوعات باستخدام دليل بعنوان «طرق بين الشجيرات» في نهاية الكتاب يتتبع فيه مواضيع مثل الاستبداد، والاستعمار، والنساء من خلال الفصول الأكثر صلة.

كما يحتوي الكتاب أيضاً على مفاجآت. على سبيل المثال، يأخذ أحد المسارات عنوانه «لوكس، هدوء، وآخرون» من قصيدة بودلير. يبدأ خط سير الرحلة بفصل عن الحفريات الأثرية التي تشير إلى أنه في أيام ما قبل التاريخ كانت هناك «أوروبا من اليشم» في الغرب مقابل «أوروبا من النحاس والذهب» في الشرق. ثم يقود القارئ إلى فصل في قاعة المرايا في فرساي، وإلى قصر نيجريسكو في نيس، وأخيراً إلى شانيل.

ويشير المحرر إلى أنه لم يكن الغرض من هذا العمل أن يكون رسالة مملوءة بالعظماء والفعاليات الكبرى. ففي مقابلة، أوضح باتريك بوشرون أن الكتاب صُمم بروح طفيفة وأن دعوته للمؤلفين كانت في إطار «دعونا نستمتع». كان من المفترض أيضاً أن يكون استفزازياً، ليس فقط فيما يبرزه ولكن أيضاً في ما يحذفه. وفي سياق أكثر خطورة، يمكن فهمه كموسوعة، مرتبة ترتيباً زمنياً وليس ترتيباً أبجدياً.

«هل يعني هذا التنظيم أن الجيل الجديد من المؤرخين قد عاد إلى «تاريخ الأحداث» الذي كان يحتقره أسلافهم، الجيل الأول من مدرسة أناليس، أي المؤرخون مثل فرناند براودل، الذين تتبعوا الاقتصاد، الديموغرافية، وغيرها من الهياكل على مدى فترات طويلة من الزمن؟»

أزمات في فرنسا

لا يذكر الكتاب التوجهات طويلة الأجل، ومع ذلك، خلال تناول المؤرخين في هذه المقالات الأحداث التاريخية، فإنهم يجبرون القارئ على رؤية الماضي من منظور مختلف، وهو منظور ليس عالمياً فحسب، بل يرتبط أيضاً بقضايا حالية.

إحدى هذه القضايا هي الإيكولوجيا، فعلى الرغم من أن الكتاب لا يتعامل مع التغير المناخي باعتباره مشكلة سياسية حالية، إلا أنه يشير إلى الأزمات البيئية السابقة التي تهم الحاضر. يصف فصل في عام 1816 بعنوان «عام بدون صيف»، عدد الجسيمات الكبريتية التي ظهرت في الغلاف الجوي من جراء ثوران بركان تامبورا في إندونيسيا والذي حظر الطاقة الشمسية في جميع أنحاء العالم. تسبب هذا في تبريد المناخ وإلحاق الضرر بالمحاصيل التي أدت إلى أزمة الكفاف الأخيرة في التاريخ الأوروبي.

ويتناول العديد من الفصول موضوع الهجرة، والتشديد على دور فرنسا كأرض ترحيب بفقراء إفريقيا وأرض لجوء لأغراض سياسية اللاجئين، ولا سيما في حالة «ذلك 11 سبتمبر آخر» في عام 1973، عندما تم إطاحة حكومة الليندي في تشيلي عبر انقلاب عسكري. بينما خضعت تشيلي لديكتاتورية وحشية، وقبلت فرنسا عشرة آلاف لاجئ تشيلي. لا يمكن للقارئ أن يفشل في التعرف إلى الإشارة إلى أزمة اللاجئين اليوم، على الرغم من أنها تظل ضمنية.

كما يتوقف الكتاب عند العديد من الأمثلة التاريخية الأخرى التي يعود إليها السياسيون لاستقطاب الجماهير خاصة في الحملات الرئاسية، ومع ذلك، لا يدعي مؤلفه تغطية التاريخ الفرنسي، بل يجد أنه يلقي الضوء على لحظات فيه بمقالات مستنيرة ومكتوبة بشكل جيد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن المترجم

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"

المزيد من الكتب والكتاب

1
فريد زكريا
تظاهرة عمالية في ألمانيا
ستيفانيا باركا
1
آدم تشابنيك وآسا مكيرشر
1
ريتشارد يونغس
1
جوشوا فيراسامي
خلال قمة أوروبية سابقة
مارك ساكليبن
1
تياجو فرنانديز