الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي صعب المنال

03:37 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

بعد نهاية الحرب الباردة ارتفعت أصوات كثيرة في أوروبا، فرنسا على وجه التحديد، من أجل «أورَبة» حلف الأطلسي، أو أقله منح أوروبا نوعاً من الاستقلالية في اتخاذ القرار والفعل داخل هذا الحلف، لاسيما في الشؤون المتعلقة بالأمن الأوروبي.
وبعد نقاشات ومفاوضات أوروبية أمريكية، تم التوصل إلى «اتفاق برلين» في عام 1995، الذي يحقق بعضاً من الطموح الأوروبي (الفرنسي في الحقيقة)، لكنه بقي حبراً على ورق بفعل الحاجة الأوروبية للسلاح والعتاد، والقدرات التكنولوجية الأمريكية.
خلال حملته الانتخابية وعد إيمانويل ماكرون، بزيادة الميزانية الدفاعية لبلاده لتصبح اثنين في المئة من الناتج الإجمالي الداخلي في غضون عام 2025، كما كرر الوعد بالعمل على «إعادة تأسيس أوروبا» التي تمر، في رأيه، عبر تحقيق السيادة الدفاعية أولاً، والتي لا يمكن أن تتحقق من دون قناعة ألمانية، فالاتحاد الأوروبي ما يزال منذ إنشائه، يسير على عجلتين سياسية فرنسية، واقتصادية ألمانية، كما هو معروف.
من الجهة الألمانية، فإن الاتفاق الموقع في 12 يناير الماضي، بين الشركاء في الحكومة الألمانية المقبلة المنبثقة عن الانتخابات التشريعية الأخيرة، لا يتكلم عن «استقلال استراتيجي أوروبي»، مع قدرات عسكرية أوروبية خاصة، كما يطمح الفرنسيون، ولكن عن «تقوية السياسة الأوروبية في مجال الأمن والدفاع المشترك، في اتجاه بناء أوروبا كقوة سلام»؛ لذلك من المتوقع أن يشهد العام الجاري نقاشاً فرنسياً ألمانياً مستفيضاً، حول مستقبل الدفاع الأوروبي، وهذا العام سيكون مفصلياً لمستقبل المشروع الأوروبي برمته.
ولكن ما هي هذه «السيادة الأوروبية»؟ ومن يمارسها؟ وفي أي إطار قانوني وسياسي؟ وهل تتقاطع الرؤيتان الفرنسية والألمانية في مكان ما؟ يتمحور النقاش في الواقع حول مستويات ثلاثة في الوقت نفسه، هي مستويات المصالح الوطنية والقواعد القانونية والقدرات العسكرية.
بالنسبة للمقاربة الماكرونية، فهي تشبه إلى حد كبير المقاربة الشيراكية في العقد الأخير من القرن الماضي، القائمة على الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، والتي أفضت إلى اتفاق برلين. هذه المقاربة نجدها في مبادرة ماكرون حول «التدخل الأوروبي المستقل»، الذي لا بد أن يقود إلى «قوة مشتركة»، تمنح أوروبا «قدرة على التحرك المستقل»، لكن ماكرون يدرك بأن هناك «نقصاً في الثقافة الاستراتيجية المشتركة»، ويحاول أن يتقدم بمبادرات لتصحيح هذا الخلل، الذي أعلن مرة بأنه «لا يمكن تصحيحه في يوم واحد»، قبل أن يستدرك قائلاً: «يجب أن نبدأ».
وهنا المشكلة، فكيف يمكن المواءمة ما بين الثقافتين الاستراتيجيتين الفرنسية والألمانية، وهو سؤال أساسي يرتبط بالمصالح السياسية في المحصلة.
بالنسبة للألمان فهم يعتبرون أن «الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي» مشروع طموح جداً، وغير واقعي ومكلف كثيراً. الحزب الاشتراكي الديمقراطي، يفضل التفكير ب«أوروبا كقوة سلام» تسعى للوقاية من الأزمات ومكافحتها قبل أن تحصل، وذلك عبر وسائل مدنية أكثر منها عسكرية. من جهتها فرنسا لا تعترض على ذلك؛ لكنها تذكر الألمان بأن الواقع الدولي لا ينفك يبرهن على أن الوسائل المدنية، غالباً ما تبدو قاصرة عن حل الأزمات أو غير كافية على الأقل.
من هنا ينشط النقاش ما بين الفرنسيين والألمان في صفحات «المجلة الاستراتيجية للدفاع والأمن الوطني»، التي رعت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي عددها الأخير، الصادر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وسلمته إلى الرئيس ماكرون، وهو عدد يستخلص دروس «الكتاب الأبيض» الصادر عن وزارة الدفاع الفرنسية في عام 2013، الذي تكلم عن «وضع استراتيجي دولي غير مستقر وعصي على التوقع».
ومن أعداد هذه المجلة يبدو أن هناك عملاً جدياً لصياغة عقيدة عسكرية مشتركة ما بين باريس وبرلين. وهذه العقيدة هي خيار سياسي مهم يجمل تبعات ثقيلة جداً، وأهم بكثير من القرارات المشتركة التي تم اتخاذها حول التعاون البنيوي الدائم، في إطار معاهدة لشبونة التي يعتبرها ماكرون الأساس الذي يمكن عليه بناء قدرات العمل الأوروبي الدفاعي المشترك.
لكن على الرغم من ضرورتها تبقى الثقافة السياسية والاستراتيجية المشتركة غير كافية، فمن سيضع هذا الفعل المشترك موضع التنفيذ؟ هناك في ألمانيا من يعتقد بأن المبادرة الفرنسية الهادفة إلى التعاون الدفاعي مع ألمانيا، تبقى مشروعاً خارج أوروبا؛ لأن باريس تريد أن يكون هذا العمل المشترك خارج القيود والعقبات السياسية والمؤسساتية الأوروبية، لكن هذا غير صحيح البتة، فالعرض الفرنسي يقبع ضمن مشروع الرئيس ماكرون، الهادف إلى «إعادة تأسيس أوروبا»، ويخضع للرقابة الديمقراطية في إطار الاتحاد الأوروبي، كما يدعو إلى تدعيم وزيادة صلاحيات البرلمان الأوروبي.
وهنا يتفق الفرنسيون مع الألمان الذين هم أيضاً يريدون تقوية هذا البرلمان.
إلى من تؤول مسؤولية استخدام قوة التدخل المشتركة (المشروع الفرنسي)، أو الجيش الأوروبي (المشروع الألماني)؟ هل هو المجلس الأوروبي، أو مجلس الوزراء أم الحكومات الوطنية؟ هل تولد إلى جانب «منطقة شينجن» و«منطقة اليورو»، منطقة جديدة هي «منطقة الدفاع»؟
هذه الأسئلة ليست نظرية، بل تحتاج إلى نقاش ينتج اتفاقاً يفضي إلى التوقيع على معاهدة جديدة، لتحديد الأطر القانونية والمؤسسية والصلاحيات وغيرها الكثير.
ودون التوصل إلى مثل هذه المعاهدة عقبات كثيرة؛ مالية وسياسية وثقافية وإدارية وغيرها الكثير. وفي الانتظار ستبقى أوروبا مرتبطة بحلف الأطلسي الذي تتزعمه الولايات المتحدة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"