“إسرائيل” والاتحاد المتوسطي

03:43 صباحا
قراءة 3 دقائق

هناك علاقة غير واضحة ولكنها تبدو منطقية إلى حد بعيد تربط بين إسرائيل ومشروع الاتحاد المتوسطي الذي تحاول فرنسا جاهدة من أجل تجسيده، وينبع الدور الإسرائيلي الذي يشي بإمكانية التأثير الحاسم في المسار النهائي للمشروع ليس فقط من منطلق أن الكيان الصهيوني يملك منفذا يطل على الضفة المتوسطية، ولكن لأن المشروع في حد ذاته يشكل رهانا أوروبيا في منطلقه وفي نتائجه النهائية. وإسرائيل تملك في أوروبا أوراقا في غاية الأهمية والخطورة تجعلها تؤثر في النتيجة النهائية لصراع المصالح والنفوذ، الذي بدأ يتطور ويتمدد بين الدول الأوروبية المؤسسة للاتحاد في القارة التي حملت مشروع المدنية المعاصرة.

لقد دشنت العلاقات الاستراتيجية التي ربطت بين ألمانيا وفرنسا غداة الحرب العالمية الثانية، لمسار زاخر من التطور والاندماج الأوروبي، وقد تشكل الخلافات الحادة والصامتة بين البلدين معول هدم لهرم استنفد الأوروبيون كل طاقتهم من أجل تطويره وبلورته في صورته الحالية. لقد شعر الفرنسيون مع جاك شيراك أن التنسيق الفرنسي- الألماني بدأ يتقلص مع مجيء ميركل حيث انخفض معدل التنسيق عن المستوى الاستثنائي الذي ساد في عهد شرودر وفي زمن سلفه هيلموت كول، غير أن شيراك استطاع بفضل حنكته أن يتجاوز المظاهر الأولى للجليد التي بدأت تبرز مع وصول أول سيدة ألمانية إلى أعلى منصب تنفيذي في الدولة، لكن ساركوزي المعروف بنفسيته المتقلبة وبقراراته الانفرادية أرخى بظلال قاتمة من الشك على العلاقة بين البلدين، وهو ما أصاب التنسيق المشترك بينهما في مقتل. وقد انطلقت شرارة الخلاف بعد إعلان ساركوزي عن مشروع الاتحاد من دون أن يتشاور بشكل مسبق مع نظيرته الألمانية، كما كان عليه الحال دائما بالنسبة للملفات الحساسة التي تهم البلدين، وتشير بعض التقارير الإخبارية إلى أن هناك الكثير من اللقاءات الثنائية غير الرسمية التي كان من المفترض أن تجمع ساركوزي بميركل قد تم تأجيلها كما تم بالموازاة مع ذلك إلغاء بعضها. وإذا كانت القمة الأوروبية الأخيرة قد حاولت أن تستجيب ولو جزئيا لرغبات فرنسا بشأن مشروع الاتحاد المتوسطي، فإنها رضخت في المقابل لوجهة النظر الألمانية التي لا تعتبر المشروع سوى استمرار للمسار السابق الذي تم تدشينه في برشلونة، وهو مسار يعجز في صيغته الأولى عن تلبية وإرضاء طموحات فرنسا بشأن الاتحاد الجديد، الأمر الذي يجعل الخلاف بين ألمانيا وحلفائها في شرق أوروبا من جهة وفرنسا والدول الأوروبية المتوسطية من جهة أخرى، مرشحا لتطورات يصعب حاليا التكهن بمداها وخطورتها على مستقبل الوحدة الأوروبية.

إسرائيل ومن ورائها اللوبي اليهودي تملك أوراقا تاريخية جد مهمة قادرة على حسم الصراع لصالح طرف على حساب الطرف الآخر، خاصة إذا ما اتخذ الخلاف بين فرنسا وألمانيا صورة المواجهة المفتوحة في الأشهر والسنوات القليلة المقبلة، فتفاصيل الذاكرة المؤلمة بين البلدين قد تشكل بركانا يُلقي بحممه في أي لحظة. والزيارة الأخيرة التي قادت المستشارة ميركل إلى إسرائيل تشير حسب زعمنا إلى أن ألمانيا تريد لإسرائيل أن تظل مشدودة مع أوروبا كجزيرة في محيط عربي غريب، حتى يستمر تأثيرها على الساحة الأوروبية وفق مسار يساعد ألمانيا على تركيز نفوذها في دول أوروبا الشرقية المتأثرة بالثقافة الجرمانية والتي تعايشت سابقا بشكل منسجم مع الوجود اليهودي بالمنطقة. أما بالنسبة لفرنسا فإنها تريد أن تكون إسرائيل لاعبا أساسيا في إنجاح المشروع في حال تحقيق تقدم جزئي في عملية السلام، لأن الاعتراضات الألمانية على الاتحاد المتوسطي ستكون غير مؤثرة في حال دعم اللوبي اليهودي في أوروبا للأطروحة الفرنسية.

من الواضح أن إسرائيل لا ترغب جديا في تحقيق سلام دائم مع جيرانها، وتلك أطروحة قد تبدو الآن قديمة بشكل من الأشكال، لكنها في المقابل لا تريد الآن الدخول في حروب مباشرة وشاملة لأنها لن تكون خاطفة بل ستكون جد مكلفة بالنسبة لها، وموقفها من الاتحاد المتوسطي متوقف، في اعتقادنا، على تطورات الأحداث ومسار الصراع والمفاوضات مع الجانب الفلسطيني، فإذا أجبرتها تطورات الأحداث على توقيع اتفاقية سلام مع الفلسطينيين فإنها ستكون اقرب للأطروحة الفرنسية حتى تضمن لنفسها العيش في ظل تجمع متعدد الأعراق والديانات كالاتحاد المتوسطي وهو ما يتماشى إلى حد بعيد مع رغباتها في رفض الكيانات المتجانسة والمنغلقة التي يبدو في سياقها اللوبي اليهودي استثناء في قاعدة مغلقة. أما إذا وفّقت في أداء استراتيجيتها المستندة إلى وضعية اللاحرب واللاسلم، في ظل استمرار نزاعات مسلحة محدودة في الزمان والمكان فستكون أكثر ميلا إلى دعم المشروع الأوروبي الألماني الذي يعتمد على النفوذ المشترك بين إسرائيل وألمانيا في أوروبا الشرقية، وهو ما يتعارض بطبيعة الحال مع الاستراتيجية الفرنسية، بل يعمق بالتالي من إخفاقاتها وتراجع نفوذها على المستوى الدولي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"