عوضك على الله

03:25 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد عبدالله البريكي
موت الكاتب أو المؤلف نظرية أحدثت جدلاً، وكتب عنها على أنها ولدت مرتبكة ضعيفة أو تحتضر، وهو ما اعترف به منظرها وصاحبها السويسري بارت وتراجع عنها، فقد رأى أنها تدمر العلاقة بين مرسل النص ومستقبله، فإقصاء الكاتب الذي تعب وسهر ونقب وبحث ليخرج نصاً جاهزاً للمتلقي ثم يتم إقصاؤه وتغييبه عن نظر المتلقي لم تجد قبولاً من صاحبها الذي شعر بأن ذلك الكاتب له حق الذكر ولا خشية على إشهار اسمه عند ذكر إبداعه، فليست اللغة التي كتبها صاحبها هي صانعته، إنما هو من يعطيها قيمة بحسب سياقها وتوظيفها توظيفاً صحيحاً، والكتابة ليست عملية سهلة فهي تحتاج إلى جهد ومثابرة ومراس طويل ومستمر حتى تكون ناضجة وجميلة، أما المعاني والألفاظ فهي كما يقول عنها الجاحظ في كتاب الحيوان «المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي» وبهذا يستطيع الجميع الأخذ منها، لكن الاختلاف يكون في الأثر أو التأثير الذي تستطيع الكلمة فعله في المتلقي، وهذه مهمة تقع على عاتق الكاتب لا الكلمة، فهو ليس وسيلة لها إنما يتخذها وسيلة للوصول إلى الجمال والحضور والبقاء.
إن إشكالية تغييب الكاتب عن الحضور أو الذكر لا تقتصر على العملية النقدية حسب هذه النظرية، فهناك موت وتغييب أكبر يتجلى في مواقف عديدة يتم فيها ذكر وسيلة إيصال الكلمة أو موصلها دون ذكر صاحبها أو مرسلها أو باعث الروح والحياة فيها، وعلى الرغم من أن بعض الأعمال الكتابية تمنح موصلها شهرة كبيرة، وتوصل صوته إلى المتلقي، إلا أنه في الواقع ما هو إلا وسيلة لصانعها ومبدعها المغيب عن الحضور، والقابع بألم وحسرة خلف كواليس التنكر والإجحاف، فكم من كلمة يتم غناؤها لكنها لا تنسب إلى صاحبها وتحمل اسماً غير اسم أبيها، ويشار إلى صاحب الصوت في وسائل كثيرة، وحين يتم البحث عن أصل نسبها ربما يلقى ذلك المهتم بأمر المبدع الحقيقي صعوبة حتى يصل إليه، فيجده ذلك المدهش الذي يعيش تحت كومة من غياب، أو يطل من خلال مرآة مغبشة مغبرة.
إن سلطة النص وفن الكتابة لا يأتي منفصلاً عن فكر المبدع ومقدرته على التخيل والطيران في فضاءات اللغة وتطويعها حسب رؤيته ليخرج منها ما يذهل، ويلبسها تاجاً جميلاً وآسراً تظهر من خلاله للقارئ فاتنة تشد بصره وتشغل بصيرته، لكن من حق هذا الصانع أو الرسام أو الفنان أو الشاعر أو أي مبدع آخر أن يكون من أول الحضور، ويشار إلى نتاجه وإبداعه بفخر وبإنصاف، لا أن يتم تجاهل جهده ونكران تعبه وتهميش رسالته ودوره في العملية الفكرية والأدبية والإبداعية، هذا التهميش الذي جعلني وأنا أحضر فقرة إبداعية عبر وسيلة إعلامية جاذبة، وأرى ذلك العدد الكبير من الحضور وهو يتفاعل بإيجاب ويصفق بحرارة لذلك الذي يشدو بصوته وترافقه تلك المؤثرات والإيقاعات، وكنت وقتها أبحث عن صاحب تلك اللغة الجميلة التي اختارها ذلك الشادي الجميل، وبعد رحلة بحث طويلة عبر وسائل مختلفة كنت أجد فيها روابط لتلك اللوحة الفنية المصورة، ولم أتمكن من الحصول على صاحب تلك الفاتنة الآسرة، ووجدت تلك الدمعة التي سقطت من عين الشادي وكأنها تسقط رحمة على قبر مبدع اللغة والنص الذي ربما هو حي يرزق لكن تغييب اسمه موت حقيقي يجعلني أقول بحسرة وبألم أستمده من روحه التي تتابع تهميشه «عوضك على الله».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"