الاتحاد الأوروبي والقوة الألمانية

01:50 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي
يمثل الاتحاد الأوروبي آخر قلاع العولمة التي سطع نجمها بشكل غير مسبوق منذ نهاية الحرب الباردة، ويتساءل الكثيرون في هذه المرحلة الانتقالية التي يمر بها العالم، عن مصير العولمة وعن مصير الاتحاد الأوروبي نفسه، وبخاصة بعد فوز قوى اليمين المحافظ في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في بريطانيا، إضافة إلى الصعوبات التي تميّز المفاوضات الأوروبية مع اليونان بشأن ديونها المتراكمة والتي أخذت مساراً معقداً نتيجة لفوز قوى اليسار في الانتخابات اليونانية الأخيرة.
ويمكن الزعم أن تراجع بريق العولمة أفضى إلى انحسار ملحوظ في جاذبية التكتلات السياسية والاقتصادية الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي، كما أن تزايد الصعوبات الاقتصادية التي تواجه الدول الوطنية في أوروبا ضاعف بشكل لافت من الأصوات المعارضة لمسار الوحدة داخل القارة العجوز، وباتت مجمل دول جنوب أوروبا تنظر بعين الريبة إلى السياسات النقدية المتشددة التي تفرضها قيادة الاتحاد بزعامة ألمانيا والتي أثرت بشكل سلبي في اقتصادات دول عديدة مثل إسبانيا والبرتغال وإيطاليا.
وفضلاً عن ذلك فإن الثنائي الألماني - الفرنسي المُحّرك التقليدي لعجلة الاتحاد بدأ يصيبه الوهن نتيجة لتصاعد أصوات فرنسية عديدة تتهم ألمانيا بأنها تنتهج سياسات أحادية الجانب وتتخذ قرارات تخدم بالدرجة الأولى مصالحها القومية العليا، من دون الأخذ في الحسبان مصالح المجموعة الأوروبية. ويلاحظ المتتبعون للشأن الأوروبي أن الحكومة الألمانية توجد قي موقف يفرض عليها أن تقود أوروبا من دون أن تكون لها رغبة حقيقية في القيام بمثل هذا الدور، وهي وضعية أشبه ما تكون بحالة هيمنة طارئة ومفاجئة أفرزتها القوة الاقتصادية الألمانية الكبيرة، وذلك في مواجهة دول أوروبية ضعيفة تعودت على الإنفاق العمومي بشكل يتجاوز قدراتها المالية.
وعليه فإنه وبالرغم من أن أنظار الأوروبيين تتجه باستمرار نحو هذه القوة التاريخية الصاعدة طمعاً في إيجاد حل لأزماتها المالية المتفاقمة، فإن ألمانيا أصبحت أقل استعداداً ممّا كانت عليه في السابق من أجل أن تقدم بعض التضحيات التي من شأنها أن تسهم في إنقاذ الوحدة الأوروبية؛ لأن حكومة المستشارة أنجيلا ميركل لا تريد أن تعيد استنساخ تجربة هيلموت كول المستشار الأسبق الذي كان لا يتردد في تسخير قدرات بلاده المادية من أجل الحفاظ على ديمومة وتماسك الاتحاد.
وهناك من يذهب إلى القول إلى أن ألمانيا ستواصل سياسة الضغط على شركائها الأوروبيين من أجل تقليص العجز في موازناتهم العامة، ولن تسعى في كل الأحوال إلى المحافظة على الوحدة النقدية الأوروبية على حساب مصالحها الخاصة.
وبالتالي فإن الضعف والوهن الاقتصادي المتزايد لأغلب الدول الأوروبية، هو الذي يدفع ألمانيا إلى الخروج من انزوائها الذي فرضه عليها ميراث الحرب العالمية الثانية، من أجل أن تتصدر المشهد السياسي والاقتصادي الأوروبي بشكل غير مسبوق؛ لاسيما أن الولايات المتحدة الأمريكية الحليف التقليدي للعديد من الدول الأوروبية، تعيش أصعب مراحل وجودها على المستويين الاقتصادي والسياسي.
من الواضح أن أوروبا باتت تعاني صعوبات كبيرة بعد أن تحوّلت سياسة الإدماج الاقتصادي والسياسي إلى كارثة مالية تهدّد استقرار دول أوروبا بشكل عام ودول الجنوب المطلة على البحر الأبيض المتوسط بشكل خاص؛ ويبدو أن رصيد الاحترام والمحبة الذي كانت تتمتع به ألمانيا في سنوات الستينات والسبعينات والثمانيات وحتى نهاية التسعينات من القرن الماضي، لدى جيرانها الأوروبيين، بدأ يتلاشى وبدأت تبرز من جديد علامات رفض وكراهية لكل ما هو ألماني في العديد من الدول الأوروبية، الأمر الذي دفع الأحزاب المعارضة في أوروبا إلى وضع استراتيجيتها الانتخابية على أساس رفض ما يرونه وصاية ألمانية على أوروبا.
ويمكننا أن نلاحظ بكل جلاء أن التوجهات الوطنية والقومية بدأت تعود إلى الواجهة في مجمل دول القارة، حتى وإن كان الألمان يحرصون على محاربة مثل هذه التوجهات من أجل تجنب عودة شياطين التاريخ الدموي في هذه المنطقة الحيوية من العالم، التي ما زالت ذاكرتها تختزل صور القتل والدمار التي كانت ولا تزال تُعلّق على مشجب القومية الألمانية.
لا مندوحة من الاعتراف في هذه العجالة أن حلم الاتحاد الأوروبي تحوّل فجأة من نعمة إلى نقمة، وبالتالي فإن دول جنوب أوروبا بدأت تركِّز في سياستها الخارجية على محاولة افتكاك المزيد من التنازلات من العملاق الألماني، ويرى المحللون أن الجراحات التي تسبّبت فيها السياسات النقدية الموحدة بقيادة ألمانيا، أدت إلى كوارث اجتماعية كبرى في دول مثل اليونان وإيطاليا وإسبانيا، وهو الواقع الذي يُسهم في رسم صورة بالغة السواد لمستقبل أوروبا.
لقد وصل الألمان إلى قناعة مؤداها أن اختلاف التقاليد الاجتماعية والاقتصادية، وربما حتى الخصوصيات التاريخية، تمثل كلها عوامل لا تساعد على فرض وحدة نقدية ليست لها القدرة- فيما يبدو- على استيعاب الفروق المجتمعية التي تميز دول الاتحاد؛ وبناءً على ذلك، فقد باتت النخب الألمانية تخشى أن يسهم ازدياد مشاعر الكراهية ضدها في الكثير من الدول الأوروبية، إلى استيقاظ النزعة القومية المتطرفة لدى المواطنين الألمان وبخاصة في صفوف الأحزاب اليمينية.
ويمكن القول في سياق هذا التحليل إن النظام النقدي الموّحد يخدم فقط الاقتصادات القائمة على الادخار والاستثمار، كما هو الشأن عليه في ألمانيا ودول شمال أوروبا، الشيء الذي يجعل استمرار الوحدة النقدية في صورتها الحالية أمراً في غاية التعقيد.
صحيح أن أغلبية الأوروبيين ما زالوا مقتنعين بأهمية ومزايا الوحدة ولكنهم يريدون أن يجعلوا القوة الألمانية أكثر تفهماً وأكثر تقبلاً لخصوصياتهم الاجتماعية والاقتصادية.
وصفوة القول هو أن المفارقة الكبرى التي يعيشها الاتحاد الأوروبي الآن، وبخاصة في ضفته الجنوبية، تكمن في أن قسماً كبيراً من الرأي العام الأوروبي لا يتردد في التعبير عن انزعاجه من القوة الألمانية، ولكنه لا يتوقف في المقابل عن مطالبتها بتوظيف عناصر قوتها من أجل المحافظة على انسجام واستقرار ووحدة الاتحاد، لأن زواله المفاجئ سيُدخل دول أوروبا برمتها في أتون أزمة كبرى يمكنها أن تستمر لعقود طويلة من الزمن.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"