التعصّب و«صدام الحضارات»

05:07 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

أسالَ كتاب المفكر الأمريكي صامويل هنتنغتون «صدام الحضارات» الكثير من الحبر، وأثار نقاشاً واسعاً على المستوى الدولي، وبصرف النظر عن المواقف التي يمكن أن نتخذها بشأن الأطروحة الرئيسية لهذا المؤلف، فإنه من الصعوبة بمكان أن نُغفل المنطلقات العنصرية لمجمل الأفكار التي حاول أن يدافع عنها هنتنغتون، ليس لأنه تحدث عن وجود صراع وتنافس بين الدول والشعوب، فذلك أمر بديهي، ولكن لأنه دعم التعصب والتطرف عندما أراد أن يؤكد أن الصراع بين الشعوب هو في جوهره صراع ثقافي وديني في المقام الأول، لينسف بذلك مجمل مكاسب القيم الإنسانية للحضارة المعاصرة، ويعيدنا بذلك إلى التمثلات العقائدية نفسها التي سادت في القرون الوسطى، وبخاصة عندما تعمّد طمس الوقائع التاريخية الدامغة التي تشير إلى أن أكثر تجليات الصراع دموية في التاريخ كانت داخل أسوار الحضارة المسيحية - اليهودية في أوروبا.
أما القول: إن الصراعات في مرحلة ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية انطلاقاً من خلافات أيديولوجية واقتصادية، ولكن بين الحضارات والأديان بناءً على اختلافات ثقافية، فتلك أطروحة تتسم بالكثير من المغالطة، لأن نهاية الحرب الباردة لا ترمز إلى حدوث قطيعة كلية على مستوى التصورات والأفكار بقدر ما تمثل بداية مرحلة جديدة من الصراع في سياق البنيات الثقافية والدينية نفسها التي كانت سائدة في زمن الحرب الباردة، بدليل أن حرب الزعامة بين واشنطن وموسكو ما زالت مستمرة، وانضمت إليها الصين أخيراً بفضل قوتها الاقتصادية المتنامية.
لقد كان الشغل الشاغل للغرب مع نهاية الحرب العالمية الثانية أي منذ 70 سنة خلت، هو المحافظة، كما يقول روبرت كغان، على ما سمّاه «النظام الليبرالي الدولي»، ومن أجل استمرار مثل هذا النظام فقد عمِل على دعم نزعة التدخل التي تمارسها دوله بقيادة الولايات المتحدة من أجل المحافظة على المكاسب التي جرى تحقيقها حتى الآن على مستوى منظومة العلاقات الدولية، لأن هذا النظام لا يمثل سيرورة لتطور طبيعي على مستوى العالم، ولكنه حصيلة تدخلات «البستاني» الأمريكي الذي حرص على رعاية المشاتل الغربية عبر كل أنحاء المعمورة.
يشير هنري بينا رويز، في معجمه حول العلمانية، إلى أن شعار صدام الحضارات يمثل أيديولوجية تهدف إلى التهويل من الاختلافات الدينية والثقافية، ويحاول أن يستغل مخاطر التصادم بين السلطة السياسية والسلطة الدينية.
وينقل هنتنغتون هذا الرسم الخيالي العنصري إلى خانة المقارنة بين الحضارات بهدف تضخيم المدى الذي تتفاضل وتتعارض فيه، إنه يصعِّد من التجزئة داخل الفضاء الإنساني، ويرفعه إلى مستوى التمزق الذي يستحيل تجاوزه، ويأخذ المجموعات الدينية المنغلقة دليلاً وشاهداً، وكأنه يشجّع بذلك كل أشكال التمركز حول العرف والدين.
ويحمل مثل هذا العمل وظيفة أيديولوجية، بل وعسكرية، من أجل التنظير لأشكال جديدة من الصراع تتجاوز تلك المتعلقة بنموذج الحرب الباردة، ويُسقط من حسابه كل معاناة البشر الناجمة عن الفوارق الاجتماعية وعن المنافسة الرأسمالية المتوحشة.
ويضيف بينا رويز أن أسلوب تقسيم الحضارات الذي يقترحه هنتنغتون يجعل العنصرية العرقية تتحوّل إلى عنصرية ثقافية من خلال تضخيم الاختلافات، والتوجس من الاختلاط، وتمجيد الصفاء اعتماداً على قراءة انتقائية للتاريخ، وتدعو أطروحته إلى تحقيق نهضة جديدة للغرب المسيحي الذي يحتكر الفضائل كلها كالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.
صحيح أن الصراع بين الأديان والثقافات ما زال موجوداً، لكنه لا يمثل واقعاً ينخرط فيه كل سكان المعمورة، إنه صراع تدعو إليه مجموعات متطرفة صغيرة مصمّمة على التركيز المبالغ فيه على الاختلافات التي يزعم أصحابها تمثيل الدين والحديث باسمه. ويحدث ذلك على المستويين الدولي والمحلي، كما هو الشأن في الهند بين المكونات الدينية المتعددة، وفي لبنان بين المسلمين والمسيحيين، أو بين المسلمين أنفسهم.
وتعمل قوى اليمين في الغرب الآن على تشويه أسس العلمانية الأوروبية التي ترفض إقامة فصل عنصري بين الأديان، وتسعى إلى تحويل هذه العلمانية إلى فضيلة خاصة بالسكان المسيحيين من خلال التفريق بين المواطنين على أسس دينية، والتمييز العنصري ضد الجاليات المسلمة، ومحاولة شيطنة الإسلام، وبذلك فإن هذا الصدام المزعوم يغذي مشاعر الخوف، ويؤجّج منطق الحرب، ويدفع إلى المواجهة بين المكونات المختلفة للمجتمعات، بحيث يصبح الشذوذ قاعدة عامة، وليس استثناء.
ومن هنا فإن التعصّب الذي يغذي الصراع والمواجهة بين الشعوب ليس مرتبطاً بدين أو ثقافة بعينها، إنه سلوك نجده حاضراً لدى كل أصحاب العقول المنغلقة، لأن المتعصِّب شخص مهووس يعتقد أنه مسكون بنوع من القدسية المتعالية عن سلوكيات غيره من البشر، ويتجه المتعصّب نحو العنف والكراهية، ويرفض التسامح. ويقول فولتير في قاموسه الفلسفي عن هذا المتعصب، إنه ذلك الشخص الذي يتعامل مع أوهامه وأحلامه بوصفها وقائع، ويدعم جنونه بواسطة القتل، ويزعم أنه يستحق مباركة السماء من خلال إقدامه على ذبح غيره.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"