القراء والكتاب وجهاً لوجه

02:04 صباحا
قراءة 3 دقائق
أصبح اليوم لدينا رصيد وافر من المبادرات التي تحث على القراءة، والتي تدعو كل أفراد المجتمع إلى الاطلاع ومحاولة تغذية العقل بكل ما هو نافع ومفيد، وما من شك أن هذه المبادرات كان لها تأثير كبير في البيئة العامة، خصوصا وأنها حملت دعوات غير مسبوقة تسهل على الموظفين اقتناص بعض الوقت للاطلاع في أثناء أداء وظيفتهم، وحركت المياه الراكدة داخل البيوت، فكانت محفزاً كبيراً للأسر، ودافعاً قوياً للأبناء لكي يدركوا أهمية القراءة في بناء العقل والتزود من المعرفة التي هي في نهاية الأمر تدعم شخصية الفرد واستقراره النفسي، وعلى الرغم من أن كل هذه المبادرات حملت طابعاً عمليا ووجدانيا، فإن هناك مشكلة عميقة تواجه القراء بوجه عام، تتمثل في أن الجمهور يطالع كل يوم عشرات المقالات، ويذهب بعضهم إلى المكتبات ليتخير العناوين البراقة لبعض الكتاب، وإذ بهم يواجهون هؤلاء الكتاب وجها إلى وجه فيكتشفون أن هناك هشاشة في الطرح، وعدم القدرة على التعبير عن الفكرة باللغة السليمة، وهذا من أشد المعضلات التي تصل بالقارىء إلى حالة شديدة من النفور، وهو ما يبين أن الكثير من الكتاب لا يمتلكون أدواتهم في الكتابة، وليس لديهم خبرة عميقة باللغة، ويبدو أنهم لا يقرؤون.
إذن فالقراءة مهمة جداً للكتاب أنفسهم، سواء الذين يكتبون أعمدة في الصحف، أو الذين يؤلفون الكتب، فمثلما يهتم المرء في حياته اليومية بشحن هاتفه الخلوي حتى يمتلىء بالطاقة، ويقدم الماء للزرع حتى ينمو، ويزود المركبات بالوقود، فإن الطاقة الحقيقية المتجددة للكاتب هي القراءة، لأنها تمنحه الحيوية اللفظية، والقدرة على إعمال العقل وتنشيط الذهن، وامتلاك الأدوات اللغوية التي يستطيع أن يعبر عن فكرته من خلالها، وهذا لا يعني أن هناك كتاباً لا يمتلكون هذه الأدوات وإنما حديثي عن هؤلاء الذين يصرون على الكتابة في المواقع الإعلامية المختلفة، ومن ثم جمع هذه الكتابات في كتب، وتوزيعها في المكتبات، فمن وجهة نظري أن مثل هذه الإصدارات لا ترتقي بالفكر ولا ترتفع بالذائقة، لكنها شديدة الضرر، وتأثيراتها في الجيل الجديد سلبية جداً، وكما أنني ألمحت إلى وجود مثل هذه الكتابات، فإنني لا بد من أن أشيد بثلة من الأدباء الذين نعاصرهم، والكتاب الذين نستمتع بكتاباتهم الرصينة، وهم في الحقيقة قلة، نظراً لأن الجميع يريد أن يكتب، ويريد أن تكون له زاوية في الصحف، وكتاب في الأسواق، دون الاتكاء على ثقافة حقيقية وامتلاك للغة نابع من الذات.

إذن فإن هناك مسؤولية كبيرة على كل صاحب قلم حتى لا ينفر الناس من القراءة ويظنون أن الثقافة وصلت إلى هذا المستوى من التدني بناء على ما يقدمه بعض الكتاب في هذا العصر، وحتى لا نظل نرى أن الرصانة الحقيقية في كتب التراث الإنساني وحدها، فإننا لا بد من محاولة التمثل بالنابغين من الكتاب القدامى الذين أثروا ساحة الفكر، ولا يزال الكثير منهم يتصدر المشهد الفكري في عصرنا هذا، وإن كان من الحق أن نقول إن كتب التراث هي المعين الحقيقي والوعاء الذي لا ينضب ماؤه، فقد أبدع الأوائل وعبروا بجسارة عن أفكارهم، وطاوعتهم في ذلك اللغة بكل ثرائها المعرفي، وخفاياها وأسرارها التي استطاعوا أن يسبروا أغوارها، لذا فأنا مع القراءة في كل وقت، في السفر، في لحظات الخلوة داخل البيوت، في أوقات الراحة داخل مؤسسات العمل، في الطائرة، في المترو، في الحدائق العامة، وألا تقتصر القراءة على فئة معينة، فيجب أن يقرأ الجميع، الجمهور والكتاب معاً حتى نصل في نهاية الأمر إلى تحقيق الأهداف المثلى لمبادرات القراءة التي يستحق أصحابها كل الإشادة والتقدير والعرفان بالجميل، لأنهم أشعلوا شمعة مضيئة في هذا الكون الذي انطلق نحو التكنولوجيا، ونسى سكانه أن القراءة هي السبيل الوحيد لاكتساب العلم والوصول إلى كنوز المعرفة.

محمد عبدالله البريكي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"