أكثر من جانب لصورة شافيز

03:20 صباحا
قراءة 4 دقائق

لعل الرئيس الفنزويلي شافيز الراحل عن 58 عاماً، من نماذج رئاسية باتت نادرة في زماننا، فهو زعيم وطني شعبي وشعبوي يخالط الناس ويتحدث على طريقتهم، وينأى عن البهرج الرسمي . لذلك كان وجوده على رأس السلطة في بلاده مميزاً، وبالكاد يذكر أحد زعماء سابقين لفنزويلا رغم أن فترة حكمه لم تزد على 14 عاماً، وهي فترة ليست طويلة في معايير العالم الثالث . وخلافاً لزعماء في أمريكا الجنوبية وإفريقيا، لم يقترن حكمه بالفساد رغم ما تتمتع به بلاده من ثروة نفطية، ولا عُرف باستهداف معارضيه وخصومه بالقمع العاري . لقد صمم على الانتقال إلى حكم اشتراكي في زمن كانت تأفل فيه المنظومة الاشتراكية، فجاء التحوّل الذي أرساه مخالفاً للرياح الدولية التي هبت منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، بالتوجه نحو اللبرلة والاندماج في العولمة . وأسهم في إطلاق موجة يسارية في القارة اللاتينية، من دون أن يثير كبير عداء لبلاده وحكمه، فلم يجنح نحو تضخيم جيش بلاده وعسكرة الحكم، ولم يتوافر على طموحات نووية مثلاً، بل كانت طموحاته التي تتعدى حدود بلاده هي إقامة إقليم أمريكي لاتيني، وهو طموح مشروع لا يهدد الآخرين، وقد سبقه الأوروبيون إلى ذلك بإقامة اتحادهم القاري العتيد .

لهذا وبسبب البعد عن العسكرة، وعن الانغماس في مشكلات ملتهبة خارج الحدود، فقد ظل تمرد شافيز مقبولاً لا يثير التوجس الشديد، وخلافاته مع الولايات المتحدة لم تأخذ مساقاً خطراً، فالرجل على سبيل المثال نأى بنفسه وبلاده عن ظاهرة الإرهاب وحتى عن التعاون العسكري واسع النطاق مع دول مثل إيران وروسيا، ولم يترك لخصومه الدوليين فرصة التقاط ذريعة للتدخل ضد بلاده وحكمه، ما مكنه من إرساء الاستقرار في بيئة إقليمية متوترة، رغم أن هذا الاستقرار كان مشوباً بتوترات داخلية مع المعارضة .

من الطبيعي أن يترك رحيله فراغاً، هو الذي كان يتحدث ساعات على التلفزيون بصورة شبه يومية مع مواطنيه، وينقل في بث مباشر اجتماعات حكومية على الهواء، ولأنه نجح في أن يكون نصيراً للفقراء والمهمشين، طافت جموع حاشدة من هؤلاء تبكيه مُرّ البكاء في شوارع العاصمة كاراكاس ما أن اذيع خبر وفاته، وهو الذي ردد لإطبائه قبل رحيله عبارة: لا أريد أن أموت . . دعوني أعش . لا شك أن عبارة إنسانية كهذه توقظ المشاعر حتى لدى الخصوم والمنافسين .

كعرب فإن التعاطف الكبير مع الشعب الفنزويلي برحيل زعيمه يستند إلى ما أبداه الرجل من مواقف شجاعة ضد الحرب على غزة وطرد السفير الصهيوني في العام ،2007 وهو موقف نادر يظل يحفظ للرجل، أما موقفه المثير للجدل بشأن الأزمة السورية فلم يكن له كبير أثر على مجرى الأزمة قياساً بمواقف مؤيدة أو مناوئة للنظام في دمشق . في منظور الرأي العام العربي فإن شافيز هو نسخة عن جمال عبدالناصر وأحمد بن بيللا، ودولياً هو نموذج متجدد لنهرو وتيتو ونكروما وكاسترو، ممن ناوأوا الولايات المتحدة، ورفضو أية تبعية .

الآن يحل نائبه الشاب نيكولاس مادورو (50 عاماً) محله رئيساً مؤقتاً، وكان شافيز قد أوصى شعبه به . المعارضة رفضت التنصيب، ورفضت أن يتم أداء القسم في الأكاديمية العسكرية، مخافة أن يؤدي ذلك لأن تلعب المؤسسة العسكرية دوراً نافذاً في الحياة السياسية . ولنا أن نتوقع توترات داخلية، فالرئيس الجديد لا يتمتع بكاريزما الرئيس الراحل، وهناك جدل دستوري يشوب عملية تنصيبه من وجهة نظر المعارضة التي ترى في رئيس الجمعية الوطنية رئيساً مؤقتاً للبلاد وفق دستور ،1999 علماً أن الدستور قد عدل بعد عشر سنوات على ذلك التاريخ . ويبدو أن المعارضة لا تعترف بذلك التعديل الذي مرّ باستفتاء عام بنسبة 54 في المئة، ومرد اعتراض المعارضة في الأساس أن ذلك التعديل خرق مبدأ تداول السلطة إذ سمح للرئيس أن يجدد ولايته من دون قيود .

هنا تتبدى مآخذ رئيسة على مسار شافيز . فقد قاد انقلاباً عسكرياً في العام 1992 وتم العفو عنه بعد عامين ليفوز بعدئذ في الانتخابات . فالرجل تبعاً لذلك يحبذ الانقلاب كما يحبذ صندوق الاقتراع سواء بسواء للوصول إلى السلطة . ورغم خلفيته العسكرية إلا أنه لم يفرض حكماً عسكرياً على البلاد لكنه أرسى حكم الزعيم الواحد . وهكذا أصبحت البلاد تقترن باسمه، بدلاً من حكومة بذاتها أو حزب معين يقوده هو، فحركة الجمهورية الخامسة هي واقع الأمر حركته وقد طبعها بطابعه، ولهذا فإن رحيل الرجل إضافة إلى أسباب تقدم ذكرها ترك فراغاً فعلياً، كالفراغ المؤسساتي الذي تركه الراحل عبدالناصر في مصر . في ظل هذا الفراغ لا يبدو مستبعداً أن تنشط المعارضة لملء الفراغ، وأن تساجل حول مرحلته التي دشنت الطريق لنظام شبه شمولي مع رئاسة لمدى الحياة، حتى لو تم ذلك عبر استفتاءات، فالجمهور العريض بمن فيه الأكثر فقراً والأقل انشغالاً بالسياسة والتفاصيل الدستورية، لا يملك البت في هذه الأمور قياساً بجمعية منتخبة انتخاباً نزيهاً .

هناك إلى ذلك معارضة واسعة لمنهج التأميم الذي عفا عليه الزمن، والبديل هو ضرائب تصاعدية على كبار الأثرياء، وإعادة تدوير أموال الضرائب في تنشيط الحياة الاقتصادية وتحفيز صغار المالكين، ولهذا وقفت نقابات عمال ضد التأميم إلى جانب أرباب عمل . وإذ يحسب لشافيز عنايته بالفقراء والمهمشين فقد نجم ذلك عن توجيه ثروة النفط (فنزويلا رابع دولة منتجة للنفط في العالم) وليس بنمو أو ازدهار اقتصادي حققه، علماً أن الحكم السابق لم يقم بهذا التوجيه كما فعل هو . برحيله يفقد العالم حقاً شيئاً من نكهته .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"