نبوءة جورج أورويل

03:42 صباحا
قراءة 4 دقائق

عندما كان الإنجليزي جورج أورويل عاكفاً على كتابة روايته السياسية ذات الطابع الخيالي 1984، لم تكن لديه أدنى فكرة كيف سيقترب خياله الكلاسيكي من رسم صورة لما سيكون عليه مستقبل البشرية .

ومرت سنوات عدة على العام 1984 لنجد عالمنا الحالي قريب الشبه بالصورة التي رسمها أورويل لمستقبلنا والتي عكست نظرته المتشائمة .

وقد أمدنا العصر الصناعي بالوسائل التي مهدت الطريق أمام التكنولوجيا، التي قادتنا بدورها إلى عصر المعلومات .

وتلك الثورة المعلوماتية أودت بنا في النهاية إلى ذلك العصر الذي نعيشه اليوم، والذي يمكن أن نلقبه عصر جنون الارتياب (البارانويا) .

ودائماً ما تحتضن الحضارات التقدم الحادث في مجال التكنولوجيا أملاً في إحداث التقدم والتنوير، ولكن حدث ذلك بوتيرة أسرع، فلم يتمكن العالم من استيعاب التغيير، وانتشرت التكنولوجيا كانتشار النار في الهشيم، وقبل أن ندرك ذلك، أصبح العالم بأكمله في متناول كل طفل وكل رجل . وبين ليلة وضحاها، نال الجميع حق امتلاك تلك القوة التي منحتها الثورة المعلوماتية، لدرجة حولت الشخص البائس الضعيف إلى إنسان قوي يتسلح بما يمكنه من التدمير .

وفي خضم هذا، لا يجب أن ننسى أن الحضارات لا تزدهر من دون الحفاظ على النظام ومنع الفوضى، إلا أن هذا العالم الواقعي الذي أوجدته تلك الحضارات، وهذه الطبيعة الكونية تحول إلى وحش مخيف يحيا ويتنفس، ولا يستطيعون السيطرة عليه .

وأصبحت تكنولوجيا المعلومات بالنسبة لهم وحش فرانكشتاين .

وعندما بدأ الوحش في التحرر وفك قيوده، بدأت الحكومات محاولة استعادة السيطرة على مظاهر الفوضى التي قد يسببها هذا الوحش المخيف . وعندما شعرت المؤسسات الحكومية بأن الخطر بدأ يهدد أمن الدول، بدأت في توجيه ومراقبة هذا العالم الذي خلق بلا حدود، ألا وهي الشبكة العنكبوتية العالمية أو الإنترنت .

فالإنترنت وغرف الدردشة والرسائل الإلكترونية أصبحت جميعها أرضاً خصبة للفوضى، وتحولت إلى أشياء متعلقة بالأمن القومي للحكومات والدول .

وأسرعت مواقع الشبكات الاجتماعية في مراجعة سياسات الخصوصية التي تستخدمها لأنه عند استخدام الإنترنت، لن تكون هناك أية خصوصية، حيث ستكون كل الصفحات مراقبة .

وقد تبرع موقع تويتر كلية بالرسائل المتبادلة بين مستخدمي الموقع تويتس إلى مكتبة الكونغرس بالولايات المتحدة الأمريكية، بحجة المحافظة عليها والبحث .

فلماذا تريد مكتبة الكونغرس الحفاظ على والبحث في آخر ما تناولته مجموعات عشوائية من الناس؟

وبصرف النظر عن الأسباب الحقيقية وراء تلك الخطوة، فما كتبته عن نفسك مستخدماً العدد المتاح لك من الحروف والبالغ 140 حرفاً، سوف يفهرس ولن يمحى أبداً، فطالما قمت بإرسال الرسالة أو التويت فلا يمكنك استردادها مرة أخرى .

وذهبت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث أخضعتا الشوارع للمراقبة، وعندما عبرت الجماهير عن غضبها العارم تجاه تلك الخطوة، أقدمت الدولتان على استخدام كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة (سي .سي .تي .في) كأداة لمنع ارتكاب الجريمة .

ولم تكشف المملكة المتحدة عن عدد كاميرات (سي .سي .تي .في) المستخدمة لمنع الجريمة، ولم تصدر أية تصريحات حول ما إذا كانت هذه الكاميرات قد نجحت بالفعل في الحد من معدلات الجريمة أم لا . وتوصلت دراسات عدة مستقلة إلى أن هذه الكاميرات أدت بالفعل إلى خفض معدلات الجريمة بنسبة 4 في المئة فقط .

وتعتبر فاعلية هذه الكاميرات ضئيلة للغاية مقارنة بتكاليفها الضخمة التي يتحملها دافعو الضرائب، إضافة إلى كونها انتهاكاً للحريات المدنية . ومن المفترض أن ينتابك شعور بالراحة إذا علمت أن هناك عيناً تراقب تحركاتك وخطواتك، إلا أن هناك شيئاً ما يثير القلق بخصوص تلك الكاميرات .

وعودة إلى رواية أورويل 1984، فإن نبوءة مراقبة الأخ الأكبر قد تحققت بصورة جلية في كاميرات الدوائر المغلقة الحالية .

وبعد مراقبة الشبكة العنكبوتية ومراقبة الشوارع باستخدام الكاميرات، ظهرت صيحة جديدة في عالم مواجهة الإرهاب في شكل التنصت على الهواتف، واختراق خصوصية البيانات على البلاك بيري الذي صنعته ريم أو الشركة الكندية لأبحاث الإشارات .

وجاهدت الشركة من أجل جعل منتجها البلاك بيري متميزاً بتقديم خصوصية تامة لعملائها، أو منطقة آمنة، من خلال استخدام البلاك بيري، وكانت تلك هي الجريمة التي ارتكبتها الشركة .

نعم اتضحت الصورة الآن، ويتم تذكيرنا بها يومياً . نعم الإرهاب موجود بيننا . نعم، للأمن القومي الأهمية العظمى وللحكومات الحق، بل وواجب الحفاظ على السلام على أراضيها .

ولكن هل تمكنا ونحن نتأمل الصورة الكبيرة التي سيطرت على أذهاننا، هل تمكنا من إهمال الصورة الصغيرة بداخلها؟

فالحقوق المتعارضة مربكة وقد تضع الإنسان على مفترق طرق ملأى بالأشواك .

فمن جهة، لا بد أن نفكر ملياً في أمننا كأمة، ومن جهة أخرى، لا بد أن نهتم بحقنا في التمتع بخصوصية الحياة .

فالأمن القومي مسألة مقدسة يجب القتال من أجلها، ولكن هل لدينا بالفعل الرغبة في التضحية بخصوصياتنا الشخصية في مقابل الحرب ضد هذا الإرهاب؟

هل يجب علينا أن نقبل وبكامل رغبتنا أن يتحول كل ما نكتبه من كلمات على تويتر إلى مستندات تحتفظ بها وكالة أمنية أمريكية؟ هل نقبل أن يستخدم كل حرف خططناه في عجلة أو في لحظة غضب كسلاح ضدنا؟

وهل سيكون من الطبيعي أن تسير في أحد الشوارع وأنت مدرك تماماً أنك مراقب؟

وهل سيتعرض هؤلاء المواطنون من محترمي القانون للتحقيق والعقاب بحجة الأمن القومي؟

يا لها من ورطة كبيرة تلك التي تجبر الإنسان على إعادة رسم معاييره الخاصة بخصوصية المكان الذي يعيش فيه، وعلى إعادة التفكير قبل أن يخطو أية خطوة للأمام، لأنك لا تعلم من يراقبك، ومن يسمعك ومن يحول تحركاتك وكلماتك إلى مستندات .

ومعظم ما تنبأ به أورويل في 1984 تحول إلى حقيقة بشكل أو بآخر، ففي عالمه الخيالي تضطر للعيش من عادة تحولت إلى غريزة، على افتراض أن كل صوت صدر منك سمعه الكثيرون، ما عدا في الظلمة حيث تخضع كل لحظة للمراقبة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"