حسابات روسيا المعقدة

03:51 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

بحساب المكسب والخسارة، وليس بالعواطف والانفعالات، تحدد الدول مواقفها، ورد فعلها إزاء الأحداث المهمة التي تستثمرها لخدمة مصالحها، وتحقيق أهدافها. هذا بالضبط ما تفعله روسيا منذ الغارة الأمريكية التي قتلت القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني. مجموعة معقدة ومتشابكة من التوجهات والأهداف حكمت وحركت مواقف روسيا للتعامل مع الأزمة، سواء على صعيد علاقتها التنافسية التقليدية مع أمريكا، أو تحالفها الوثيق مع إيران، أو روابطها المتنامية مع بلدان المنطقة، وذلك كله لخدمة أجندتها الخاصة في الشرق الأوسط.
ولخص الصحفي الروسي اركادي دوبنوف، كل ذلك بعبارة موجزة تقول إن الإدانات الروسية العلنية للعملية كانت تخفي واقعاً شديد التعقيد فرض نفسه على تفكير القادة الروس. وإن الكرملين في الواقع تلقى نبأ الهجوم الأمريكي بمشاعر مختلطة يمتزج فيها الرضا، بالحسد والإعجاب.
أما الإعجاب فلأن العملية من الناحية العسكرية ناجحة بامتياز، وتمت بصورة خاطفة واقتنصت الهدف المحدد بدقة. وفي ما يتعلق بالحسد فهو الشعور الروسي الطبيعي تجاه أي نجاح أمريكي في ضوء التنافس بين البلدين.
وترى روسيا أن أمريكا بهذه العملية تعيد تأكيد قدرتها على صناعة الأحداث، وتغيير الواقع، وأن لها اليد الطولي في المنطقة. من هنا تسعى روسيا إلى استثمار حالة القلق التي انتابت بلدان المنطقة والعالم خوفاً من اندلاع حرب بتقديم نفسها كوسيط محايد وعاقل ينزع فتيل الأزمات، بينما تشعلها واشنطن. ومنذ سنوات تبذل موسكو بالفعل جهوداً ضخمة لتكريس هذه الصورة، وحققت نجاحاً لا بأس به. ولا يقلل من شأنه أن جانباً كبيراً منه يعزى إلى الأخطاء الأمريكية أكثر من كونه محصلة للبراعة الدبلوماسية الروسية.
ومن الطبيعي أن تحاول روسيا استغلال العملية الأخيرة لتحقيق هدفها المزدوج، أي تقويض مصداقية أمريكا، وهز ثقة حلفائها بها من ناحية، وتعزيز نفوذها كعامل استقرار وهدوء، من ناحية أخرى.
الشعور الثالث الذي تحدث عنه الصحفي الروسي، وهو حالة الرضا التي سيطرت على قادة الكرملين بعد مقتل سليماني، يجسد بالفعل الطبيعة المعقدة للعلاقة التي تربط روسيا بإيران. وتشعر روسيا بالراحة إلى حد كبير، لأن مقتل سليماني من شأنه إضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة، مقابل دعم دورها ونفوذها هي. غير أن رغبة روسيا في إضعاف إيران تصطدم برغبتها أيضاً في الحفاظ عليها قوية إلى الدرجة التي تمكنها من القيام بدورها في حماية النظام السوري. ولا ترغب موسكو في الغوص في مستنقع الحرب أكثر من ذلك. وهناك مهام لا يمكنها القيام بها، وتفضل أن تترك أعباءها لإيران. لهذا السبب ليس من مصلحة روسيا اندلاع حرب بين إيران وأمريكا، لأنها ستكون مدمرة لإيران وتخرجها بالتالي من سوريا، فضلاً عن أنها ستعزز هيمنة أمريكا على المنطقة وتقلص الدور الروسي.
ومع حرصها على مساندة إيران، لا تستطيع روسيا في الوقت نفسه المضي بعيداً في هذا الطريق لأن إغداق الدعم على طهران سيغضب خصومها، سواء من العرب، أو «إسرائيل»، وهي أطراف صديقة لروسيا لا تود أن تخسرها.
ويفسر هذا لماذا تحرص موسكو دائماً على تزويد إيران بأسلحة دفاعية، وليست هجومية، ولماذا لم تترجم إدانتها لقتل سليماني بمساعدات عسكرية نوعية لإيران. حتى في سوريا نفسها حيث يبلغ التعاون الإيراني الروسي ذروته، هناك حالة من التنافس الخفي بينهما. ومن الناحية العسكرية تتبع قوات الدفاع الوطني غير النظامية والميليشيات المسلحة إيران، بينما يعمل الجيش النظامي السوري بالتنسيق المباشر مع روسيا. وهناك أيضاً جوانب اقتصادية أهمها صناعة الفوسفات السوري التي تحتكرها روسيا منذ 2018 وتسعى لإبعاد إيران عنها.
باختصار، يحتاج كل طرف إلى الآخر، والعداء المشترك لأمريكا هو أقوى الروابط التي تجمعهما. لذا ستتعايش الدولتان وتتعاونان رغم كل التناقضات والخلافات بينهما.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"