انتخابات الجزائر والوسط الذهبي

04:30 صباحا
قراءة 4 دقائق

لقد كانت الانتخابات التشريعية في الجزائر، التي جرت يوم العاشر من مايو/ أيار الحالي مناسبة بالنسبة للأغلبية الساحقة من المواطنين الجزائريين من أجل التأكيد على تمسكهم بالسلم الأهلي والاستقرار بعد سنوات العنف الدموي الذي عاشته الجزائر خلال العشرية الأخيرة من القرن الماضي، ودلت نسبة المشاركة المتوسطة، أن المواطن الجزائري يرفض المغامرة بمستقبل أبنائه، وأن رغبته في إحداث التغيير وفي ترقية الممارسة الديمقراطية يمكن أن يتحققا في كنف الهدوء والسكينة واحترام قيم المواطنة والحفاظ على القيم الجمهورية للدولة الجزائرية . ويبدو أن رصيد الاحترام الذي مازال يحظى به الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لدى قطاع واسع من فئات الشعب كان له دور حاسم وفاعل في إقناع المترددين، وتحديداً من الطبقة المتوسطة، بأهمية هذا الاستحقاق الانتخابي بالنسبة لمستقبل الجزائر، خاصة أنه أشار في الخطاب الذي ألقاه في مناسبة الاحتفال بذكرى مجازر 8 مايو/ أيار 1945 التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في حق الجزائريين، إلى أن مرحلة حكم مفجري الثورة التحريرية قد شارفت على نهايتها، وردّ على الهتافات التي كانت تدعوه إلى الترشح لعهدة رئاسية جديدة، قائلاً: إن الوقت قد حان لتسليم قيادة الجزائر إلى جيل الشباب، لأن جيله قد تعب . وقد وصف الكثير من الملاحظين هذه التصريحات بأنها إعلان واضح عن نيته في تسليم مقاليد الحكم إلى وجوه سياسية تنتمي إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، مباشرة بعد انتهاء عهدته الرئاسية الحالية في 2014 .

وقد أوضحت نتائج الانتخابات أن التيار الوطني مُمثلاً في حزبي جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي قد حصد أغلبية المقاعد، وبالتالي فهما مازالا يتمتعان بقاعدة شعبية معتبرة عند الفئات الشعبية المتمسكة بالاستمرارية والاستقرار . ولم يكن مستغرباً بالتالي أن يحل التيار الإسلامي في المرتبة الثانية بعدد متواضع من المقاعد، لأن القاعدة الشعبية للإسلاميين في الجزائر لا تساند - في الغالب - الإخوان أو الإسلاميين المعتدلين وتُفضل عليهم بقايا حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظور الذي مازال الكثير من قادته ومناصريه يدعمون الحلول الجذرية حتى وإن أدت إلى إدخال الجزائر في موجة عنف جديدة .

انتخابات الخميس الماضي ميّزتها الكثير من المعطيات الجديدة قياساً مع الاستحقاق السابق سنة ،2007 فقد ارتفع عدد نواب البرلمان من 389 إلى 462 نائباً، إضافة إلى مشاركة 17 حزباً جديداً تم اعتمادهم بعد الإصلاحات السياسية التي أعلن عنها بوتفليقة خلال السنة الماضية . الجديد الآخر الذي ميّز هذه الانتخابات يتمثل في مشاركة أقدم حزب معارض للسلطة منذ الستينيات من القرن الماضي وهو حزب جبهة القوى الاشتراكية الذي يتزعمه حسين آيت أحمد، أحد الوجوه التاريخية البارزة للثورة التحريرية الجزائرية ضد الاستعمار، والذي سبق له أن قاطع اقتراعي 2002 و،2007 كما أن نسبة المشاركة التي بلغت 43 في المئة أي بمجموع فاق 9 ملايين ناخب، مثلت قفزة نوعية قياساً بنتائج آخر اقتراعين، من منطلق أن الجزائريين لا يشاركون بكثافة كبيرة في الانتخابات التشريعية مقارنة بالانتخابات الرئاسية، لأن أغلبهم يعتقدون أن المرشحين يسعون في العادة إلى تحقيق طموحاتهم الشخصية، ولا تعكس سلوكياتهم البرامج المعلنة للأحزاب التي ينتمون إليها . ولابد من التذكير في هذا السياق، بأن نسبة مشاركة الجزائريين في هذه الانتخابات تقترب من نسبة مشاركة جيرانهم في آخر موعدين انتخابيين شهدهما المغرب العربي، فقد بلغت نسبة مشاركة المغاربة في الانتخابات التي فاز بها الإسلاميون 40 في المئة، ووصلت نسبة مشاركة التونسيين في مرحلة ما بعد الثورة نحو50 في المئة في انتخابات المجلس التأسيسي التي حصل فيها حزب النهضة على أغلب المقاعد . ورغم أنه ليست هذه هي المرة الأولى التي تشهد فيها انتخابات جزائرية حضور ملاحظين دوليين، إلا أن تواجدهم في هذه الانتخابات كان كثيفاً إلى حد بعيد، الأمر الذي دفع رئيس بعثة الملاحظين التابعين لجامعة الدول العربية إلى القول إن هذه هي المرة الأولى التي تُجنّد فيها الجامعة هذا العدد الضخم من أجل متابعة انتخابات تُجرى في دولة عربية، والملاحظة نفسها يمكن أن تُسجّل بشأن مراقبي المؤتمر الإسلامي والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي، وجاءت هذه التدابير الاستثنائية من طرف السلطات الجزائرية من أجل وضع احتجاجات المعارضة في نصابها، خاصة أن هذه المعارضة دأبت على التنديد بما تصفه تزويراً لمصلحة الأحزاب التقليدية المحسوبة على السلطة، بشكل تلقائي وجذري ومن دون أدنى تحفظ، وذلك منذ إقرار التعددية الحزبية في الجزائر سنة 1989 .

لا مندوحة من الاعتراف في هذا السياق بأن مشاركة المرأة الجزائرية في هذه الانتخابات مثلت عنصراً حاسماً في تقدم نسبة المشاركة، خاصة أنها كانت من أوائل النساء العربيات اللاتي شاركن في أول انتخابات نُظمت بعد استقلال الجزائر سنة 1963 .

وكان لها دور حاسم في الانتصار على موجة العنف الأعمى التي ضربت الجزائر في مرحلة ما أضحى يعرف في الجزائر بالعشرية السوداء من سنة 1991 إلى سنة 2001 . كما مثلت مشاركة المرأة من جهة أخرى نسبة قاربت ثلث العدد الإجمالي للمرشحين، فمن بين 25000 مرشح لخوض غمار هذا الاقتراع، بلغ عدد النساء المرشحات ،7646 حيث ضمّت كل قوائم الأحزاب نسبة معتبرة من النساء بما في ذلك الأحزاب الإسلامية، ولم يكن من المستغرب بالتالي أن تفوز المرأة ب 145 مقعداً من مقاعد البرلمان الجديد، وهي نسبة تعد الأعلى بالنسبة لكل البرلمانات في الدول العربية والإسلامية .

لقد اختار الجزائريون خلال هذا الاستحقاق، ما يمكن تسميته الوسط الذهبي الذي نعتقد أنه يريد أن يُحدِث القطيعة مع شكلين من أشكال التطرف، الأول وهو الذي يمثله الفاسدون والمنتفعون من ريع السلطة وأصحاب النفوذ، والثاني ويتجلى في خُطب أصحاب سياسات المغامرة والهروب إلى الأمام وكل المتشددين الذين أدخلوا الجزائر في نفق مظلم، ومازالوا يصبون الزيت على نار الفتنة . لقد اختار الجزائريون أن يوفرّوا للبرلمان الجديد نسبة مشاركة معقولة، يمكن القول إنها تضمن له الشرعية المطلوبة التي تساعده على إجراء التعديلات الدستورية الضرورية والتحضير لمرحلة ما بعد الرئيس بوتفليقة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"