اليمين المتطرف وفزّاعة الـ «إسلاموفوبيا»

02:42 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

أعادت العملية الإرهابية التي استهدف بها مسلّح إرهابي المصلين داخل مسجدين في نيوزيلندا، ما أسفر عن استشهاد 50 شخصاً وإصابة العشرات، طرْح الكثير من الأسئلة المؤرقة، في ارتباطها بالدوافع والدلالات والتداعيات.
فهذه العملية الموغلة في الوحشية تمّت في فضاء ديني مقدّس يفترض أن يحظى بالاحترام، وفي بلد معروف بالسلام والتعايش والممارسة الديمقراطية. كما أن الشكل المروع الذي تمت به العملية، ينطوي على قدر كبير من الإثارة والاستفزاز، ما يبرز أن الأمر تطلّب استعداداً وترتيباً مسبقين.. فقد تمت العملية بشكل مدروس وتم بثها بصورة مباشرة على إحدى شبكات التواصل الاجتماعي التي وظفت بطريقة مستفزة ومنحرفة.
ويبدو أن البث المباشر للجريمة الإرهابية، كان الغرض منه خلق أجواء من الرعب والهلع في أوساط الجاليات المسلمة المقيمة في عدد من البلدان الغربية، ودفعها للعودة إلى بلدانها الأصلية، أو التضييق على ممارسة شعائرها الدينية داخل هذه البلدان، إضافة إلى التحريض على ارتكاب نفس الجرم الإرهابي وبطرق أخرى في مناطق عديدة ضد المسلمين.
خلّفت العملية حالة من الذهول العالمي، واستياء كبيراً في أوساط المجتمعات الإسلامية، بالنظر إلى هول المشهد وفظاعته من جهة، وبالنظر إلى أن الجريمة وقعت في بلد ظلت مواقفه وسياساته إيجابية إزاء المهاجرين واللاجئين إجمالاً.. ولم تكن ردود الفعل مفاجئة، حيث أجمعت جل الدول العربية والإسلامية وحكومات العالم على رفضها وإدانتها واستنكارها لهذا الفعل الجرمي، كما لم تتردّد هيئة الأمم المتحدة من خلال أمينها العام، وعدد من المنظمات الدولية والإقليمية الأخرى في شجب وإدانة هذا العمل الإرهابي.
لا شك في أن هذا العمل وإن جاء معزولاً داخل هذا البلد المحسوب على الغرب، إلا أنه يمثل رسالة واضحة تبرز تصاعد حدة اليمين المتطرف في مناطق مختلفة من العالم، بعد أن تمكّن من اكتساح المشهد السياسي، وكسب مؤيدين له في عدد من البلدان الأوروبية وأمريكا.
وتبرز الوقائع والممارسات أن اليمين المتطرّف الذي ينتعش ويتصاعد بصورة غير مسبوقة، يوظف الكثير من الأوراق والذرائع في كسب تعاطف المجتمعات الغربية، كما هو الأمر بالنسبة لقضايا الهجرة واللجوء، وربطهما بمجمل الأزمات والإشكالات التي باتت تشهدها الدول الغربية في الوقت الراهن..
كما يتم استغلال الأحداث الإرهابية التي ترتكبها بعض الجماعات الإرهابية التي تحمل مسميات إسلامية في عدد من مناطق العالم، لتعمّم سلوكياتها على كل المسلمين دون تمييز، مع الخلط المقصود في هذا الشأن بين الإسلام والإرهاب، وتوظيف كل المناسبات السياسية والأحداث الاجتماعية للتهويل من المهاجرين بشكل عام، ومن الإسلام والمسلمين على وجه الخصوص.
فالمحطات الانتخابية، المحلية والتشريعية والرئاسية، في الدول الأوروبية، تشهد نقاشات واسعة ومزايدات كبرى بين مختلف التيارات وبخاصة اليمينية منها، حول قضيتي اللجوء والهجرة اللتين زادت حدّتهما في السنوات الأخيرة تحت وقع الكثير من الأزمات التي عمّت العديد من الدول في إفريقيا وآسيا.
وقد وصل الأمر ببعض النخب اليمينية المتطرفة إلى حد المطالبة بترحيل المسلمين من أوروبا، فيما تحفل الكثير من القنوات الإعلامية وشبكات التواصل الاجتماعي في الغرب بخطابات العداء والكراهية للمسلمين، عبر ربطهم بالعنف والتطرف، وهي خطابات تشكّل في عمقها عنفاً رمزياً يومياً، تكابده الجاليات المسلمة في الغرب، رغم إسهاماتها الكبرى والمتميزة في تطور وازدهار المجتمعات التي تقيم فيها، ورغم أن جزءاً كبيراً منها ازداد ونشأ داخل هذه الدول وتشبع بثقافتها..
ولذلك، اعتبر الكثير من المراقبين والباحثين أن هذا العمل الإرهابي هو امتداد لحدّة العداء والتمييز والإقصاء التي أصبحت تطال الجاليات المسلمة في عدد من الدول الغربية، على المستوى الشعبي، أو من خلال تصريحات عنصرية تطلقها العديد من النخب السياسية والإعلامية والفكرية داخل هذه الدول..
تؤكد الجريمة الإرهابية المرتكبة أخيراً في نيوزيلندا، أن الإرهاب والتطرف أصبحا يشكلان تهديداً حقيقياً للسلم والأمن الدوليين، ويربكان العلاقات الدولية ويضعان المكتسبات التي حققتها البشرية على مستوى تعزيز الحقوق والحريات موضع تساؤل، بل إن الأمر يضع «الديمقراطية الغربية» برمتها على المحك، بالنظر إلى تصاعد الخطابات والتوجهات العنيفة والإقصائية والعنصرية في أوساط هذه الدول، على حساب قيم التواصل والتعايش والحوار والإيمان بالاختلاف.. فالديمقراطية لا تقوم على إرساء المؤسسات وإصدار التشريعات فحسب، بل تظل بحاجة أيضاً إلى ترسيخ ثقافة سياسية تدعمها، وإلى نبذ العنف والتطرف والعنصرية..أيضاً.
إن الإرهاب هو تنكر لكل الضوابط المجتمعية في أبعادها الأخلاقية والدينية والقانونية، وهو تجسيد لإلغاء العقل، لاقترانه بالترويع والقتل والإقصاء لأجل فرض الرأي الواحد.. ولا يمكن ربطه بمجتمع ما أو دين معين.. والواقع أنه وبغض النظر عن الفضاءات والفئات المستهدفة به، وعن الأطراف المتورطة فيه، فهو يمثّل عملاً محرضاً على العنف المضاد، ما يرهن ويربك السلم والأمن الدوليين، ويحبط الجهود الدولية على مستوى التقريب بين الشعوب والثقافات والحضارات، وعلى مستوى تكثيف وتشبيك العلاقات الدولية على عدة مستويات.. ويدخل العالم في متاهات الصراع والتوتر المستمرّين.
لا يمكن تبرير الإرهاب بأية ذريعة كيفما كانت، فهو ينمّ عن سلوكيات مرفوضة بكل المعايير، ويجسّد اعتداء صارخاً على حقوق وحريات الأفراد والجماعات.. ومصادرة الحق في الحياة والاختلاف وفي بيئة آمنة وسليمة..
ثمّة إجماع دولي اليوم على أن الإرهاب أصبح يمثّل تحدياً كبيراً أمام المجتمع الدولي برمّته بالنظر للمخاطر الأمنية والسياسية والاقتصادية التي يطرحها على مستوى العلاقات الدولية بمظاهرها المختلفة؛ فكلفته خطيرة بالنسبة للدولة والمجتمع والسلام العالمي.. غير أن مواجهته تتطلب اعتماد مقاربة عقلانية وشمولية واستراتيجية في إطار من التعاون والتنسيق الدوليين، بصورة تتجاوز مجرّد التنديد والاستنكار والرفض.. إلى بلورة سياسات ميدانية تحمي المهاجرين وتضمن حقوقهم، وتعقلن توظيف التكنولوجيا الحديثة وأنسنتها، وتواجه الفكر المتطرف والعنصري بكل قوة وصرامة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"