منجز إنساني رائع

03:21 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد نور الدين

تقاطر زعماء العالم إلى نيويورك لعرض وجهات نظرهم من على منبر الأمم المتحدة. وهي الفرصة التي ينتظرونها سنوياً ليُطلوا على العالم أجمع من أعلى منبر دولي. كما هي مناسبة ليلتقوا مع زعماء دول آخرين من النادر أن يلتقوا بهم خارج هذه المناسبة.
من الطبيعة البشرية أن الإنسان عندما تكاثر شعُر بالحاجة لمن ينظم أموره وشؤونه وخلافاته. فكان الاحتكام إلى زعيم العشيرة أو القبيلة، لكن هذا لم يكن كافياً فاخترع ما نسميه الآن الدولة أو السلطة، بما هي مؤسسة تنظم حياة ما سُمي لاحقاً بالشعب وعلى أرض محددة.
فالإنسان لا يمكن أن يعيش من دون أطر تنظم حياته وترعاها. والنبي العربي محمد عليه الصلاة والسلام فعل الشيء نفسه عندما انتقل من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة. فالرسالة والأفكار لا بد من ناظم لها في مؤسسة هي الدولة، فانصرف في المدينة المنورة إلى إنشاء الدولة ووضع دستورها الاجتماعي المسمى ب «صحيفة المدينة»، أو فقط «الصحيفة».
لم تمر البشرية والدول التي تأسست، بمرحلة كتلك التي شهدتها بعد الحرب العالمية الأولى؛ تأسيس عصبة الأمم. للمرة الأولى في التاريخ تنشأ منظمة، تضم إلى حد ما جميع الدول أو على الأقل الدول القوية المؤثرة في العالم، سواء منها المنتصرة أو المنهزمة في الحرب العالمية الأولى.
وقد لعبت هذه المنظمة التي تأسست عام 1919 واتخذت جنيف مقراً لها، دورها بين الحربين العالميتين. وبمعزل عن نجاح أو فشل هذه المنظمة، فقد كانت مرجعية تُحال إليها الخلافات الدولية، فتنجح تارة وتفشل طوراً، ولكنها كانت عنواناً لاختراع صيغة جديدة للعلاقة بين الدول والمجتمعات والأمم. ومع أن الكلمة الأخيرة الراجحة كانت إلى جانب الأعضاء الوازنين فيها، مثل بريطانيا وفرنسا، لكنها أسهمت في التقليل من الحروب وفي تفكيك العديد من الأزمات.
انهارت عصبة الأمم باندلاع الحرب العالمية الثانية، وتأسست مكانها في نهاية الحرب ما تُسمى ب«الأمم المتحدة»، وهي المنظمة التي لا تزال قائمة حتى الآن.
الفارق بين عصبة الأمم والأمم المتحدة، هو أن الدولة الأقوى في العالم؛ أي الولايات المتحدة، انضمت إلى الأمم المتحدة بعدما لم تكن عضواً في عصبة الأمم. ليس ذلك فقط؛ بل نجحت في نقل مقرها من جنيف إلى نيويورك. وهذا بالطبع عكس موازين قوى كانت الولايات المتحدة هي الأقوى فيها، على الرغم من أن جنيف كانت الأنسب جغرافياً لكل الدول لموقعها الوسطي في العالم.
تميزت الأمم المتحدة بانضمام كل دولة نالت استقلالها، بحيث تخطى اليوم عدد أعضائها مئتين. أكثر من ذلك فقد حظي عدد من المؤسسات والمنظمات بصفة مراقب في الأمم المتحدة، في انعكاس لاحتضان المنظمة لكل العالم.
لا يختلف اثنان على أن القوي يمكنه أن يفرض إرادته بأكثر من وسيلة، ومع ذلك فإن إعطاء حق الفيتو للدول القوية فرض نوعاً من التوازن حال دون هيمنة طرف دون آخر على المنظمة الدولية. وعندما يطالب البعض بإلغاء حق النقض الفيتو، إنما يشرع الباب أمام معادلة جديدة تفتح أمام فوضى واسعة ويصبح لدول صغيرة أن تتحكم بالقرارات المصيرية في العالم، وهو أمر لا يتناسب مع موازين القوى. حتى المطالبة بتمثيل إضافي مع حق الفيتو لكتل بكاملها، مثل منظمة التعاون الإسلامي، ومنظمة الدول الإفريقية، غير واقعي؛ نظراً لأن أعضاء هذه المنظمات غير متفقين فيما بينهم.
لا شك أن استمرار تحكم الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، بقراراته أمر غير عادل، لكن الحل يوجب اجتراح صيغة خلاقة غير متفق عليها بعد.
رغم كل ذلك، فإن الهيئة العامة للأمم المتحدة أصدرت الكثير من القرارات خارج رقابة مجلس الأمن الدولي، التي عكست ميول الأكثرية من الدول في العالم الثالث، كما أن المنظمات التابعة للمنظمة الدولية مثل اليونيسكو، والفاو، وغيرهما، أسهمت بشكل رائع في تطوير وحماية القدرات الإنسانية والعلمية والثقافية والصحية والبيئية، ومكافحة الأمراض في العالم.
ومهما اتفقنا على لا عدالة العديد من القرارات في الأمم المتحدة أو اتهامها بالعجز في موضوعات سياسية كثيرة، لكن هذه المنظمة تبقى منجزاً إنسانياً فريداً من نوعه، يتوجب الحفاظ عليه وتطويره ليكون أكثر عدالة وفاعلية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"